تنهدات من قلبي…

الى اين؟

الى اين؟

نقلت لنا وسائل الإعلام الكنسيّة في الأسبوع العظيم الماضي خبر رسامة شّماسة ليتورجيّة في إحدى كنائس زيمبابوي، إفريقيا التابعة لبطريركية الإسكندريّةالأرثوذكسيّة.
لن أناقش موضوع رسامة امرأة شّماسة. هذا أمر أتركه الآن للاهوتيّين والمجامع الكنسيّة، فثمّة بيانات ودراسات لا تزال تحتاج إلى تدقيق وشفافيّة. يكفيني في هذا المقال أن أثير بعض أسئلة انطلاقاً من هذا الحدث، خاصّة بخصوص التوافق الأرثوذكسي. فأيّ تحرّك كنسيّ خارجاً عن التوافق والإجماع الأرثوذكسيّين يشكّل خطراً، ويقود إلى ما لا تُحمد عُقباه. فكيف بمسألة ذات حساسيّة بالغة كهذه، سيعتبرها كثيرون خطوة نحو كهنوت المرأة، خاصّة في هذا التوقيت.
لا شكّ في أنّ الدراسة المعمقة والأمينة للتراث المسيحي، الأرثوذكسي بخاصّة، وللحاجات الرعائية المطلوبة من الكنيسة في عالم اليوم، ضرورة ماسّة. لكن اللجوء إلى قرارات فرديّة يبقى أخطر من أيّ خطوة يظنّ أصحابها بها خيراً على الكنيسة. كما أنّ الدراسات اللاهوتيّة تحتاج إلى أمانة وموضوعيّة علميّة، لا تطويعاً للمعلومات باتجاه خدمة المشيئة والرغبة الذاتيين. وهنا يبرز دور القدّيسين الأنقياء لا العلماء والدارسين فقط، وإلّا نكون قد ألغينا ما نقوله منذ قرون بأنّ اللاهوت هو خبرة عشرة الله، لا مجرّد تفكير عقلاني أو فلسفي.
الى اين؟
الى اين؟
أنطلق في مساءلتي من منطلق الحرص على الوحدة الأرثوذكسيّة التي أراها في خطر يتعاظم بسبب غياب الحوار بين الكنائس، وتفّشي الروح الفردية فيها، حتّى بات الخوف من السير على خطى الفردية البروتستانتيّة وارداً. وقانا الله من استبدال الوحدة الأرثوذكسيّة باتّحاد أرثوذكسيّ.
القول بوجود الشّماسات في الكنيسة الأولى يحتاج إلى توضيح أكثر. فما لدينا من معلومات تاريخيّة لا يؤكّد أنّ جميع الكنائس شهدت خدمة الشّماسات، بل بعضها، خاصّة الكنائس الكبيرة، وفي المدن الكبرى. كما إنّ التمييز بين خدمة الشّماسات وخدمة الأرامل يحتاج بدوره إلى بحث معّمق. وما يتوفّر لدينا من معلومات يفيد بأنّ خدمة الشّماسة اشتملت على عدّة أمور، كحراسة قسم النساء في الكنيسة والسهر عليه؛ بحسب العرف الاجتماعي آنذاك كانت النساء تقفن في مكان مخصّص لهنّ والرجال كذلك الأمر. كذلك كانت الشّماسة تساعد النساء في إتمام خدمة معموديتهنّ، مثل دهن جسد المرأة بالزيت في أثناء إتمام معموديتها. كذلك تهتّم الشّماسات بتعليم النساء، وهذه خدمة لا يُجمع عليها كلّ الدارسين؟ أمّا الخدمة الرابعة فناشئة عن التقليد الاجتماعي آنذاك، فالشّماسة كانت ترافق المرأة عندما تحتاج إلى اجتماع بالأسقف، إذ كان يحّظر على الأسقف أن يقابل امرأة لوحده. بالإضافة إلى دورها في مجال خدمات المحبّة المتنوّعة.
أتى وقت زالت هذه الخدمة من الكنيسة. لا نعرف بالضبط أسباب زوالها. ألا نحتاج إلى دراسات تبّين أسباب زوالها؟ ألسنا بحاجة إلى تبيان حقول خدمتها قبل أن نتبّناها في كنائسنا؟ هل قبولها يتوافق مع التقليد والفهم الأرثوذكسيَين للكهنوت؟ هل يمكن أن تقتصر على الخدمة التعليميّة وخدمة المحبّة بكافة أشكالها؟ ما هي الحدود الفاصلة والمتقاطعة بين هذه الخدمة وخدمة المؤمنين (العلمانيين)؟ ما الدوافع الكامنة وراء منحها دوراً ليتورجيّاً؟ وما الضرورة إلى ذلك؟
إلى أيّ حدّ نطالب بهذه الخدمة لأنّها أصيلة، وهل الكنيسة بحاجة إليها حقّاً؟ وإلى أيّ حدّ نطالب بها تأثراً بالحركات الإنسانويّة والنَسَوية؟ من الذي يحرّك الكنيسة إلى تفعيل خدمتها الرعائية: الفكر اللاهوتي أم الفكر الدهري؟ كيف تجاوب الكنيسة على التحّديات الإيمانية والأخلاقية والإنسانية التي تواجهها مجتمعات اليوم؟ وعلى أي أساس تبني الكنيسة برامجها الرعائية: على أساس اجتماعي أم لاهوتي؟
ثمّة أمر آخر مهمّ أيضاً. ما هو تأثير قبول الشّماسات والكاهنات في الكنائس التي اعتمدت هذه الظاهرة؟ هل زاد هذا الأمر في نموها الروحي والعددي، أم العكس؟ هل يُعتبر قبول الشماسة خطوة أولى نحو الوصول إلى الكاهنة؟ ما تأثير وجود كهنة نساء ورجال على المفهوم الروحي واللاهوتي للكهنوت؟ إلى أي حدّ يساهم هذا الأمر في علمنة أو دهرنة الكهنوت واعتباره وظيفة دينيّة؟ ما هو التأثير السيكولوجي لوجود الجنسين سويّاً حول المائدة المقدّسة؟
إلى أين ستصل الكنيسة الأرثوذكسيّة إذا ما استمّرت كلّ كنيسة في اعتماد ما تراه مناسباً من دون التشاور والتوافق بين الكنائس الأرثوذكسية مجتمعةً؟ أين الروح المجمعية التي تمّيز الأرثوذكسية؟ ماذا عن وحدة الإيمان؟ وما الذي يجمع الكنائس الأرثوذكسية إذا بدأت الممارسات التي لا توافق عليها في الظهور هنا وهناك؟
الذين يهلّلون لظهور الشّماسة أتراهم يفكّرون في مستقبل الوحدة الأرثوذكسية؟ كيف نُفسح المجال للروح القدس كي يعمل ويخلق مواهب جديدة؟ ومتى نغلق عليه ضمن إطار محدودية تفكيرنا؟ ومتى نطوّعه لرغباتنا ورؤانا؟
لن أزيد من أسئلة أخرى كثيرة لا بدّ منها إذا ما أردنا حقّاً أن نكون صادقين وأمناء وأنقياء في كلّ عمل نقوم به في الكنيسة. فالألم الناجم عمّا يجري من تشتّـ وتفّرد يلجمني.
عسى أن تشجّع هذه الأسئلة بضعة مخلصين أمناء ومتواضعين إلى التوقف عندها قبل المضي في فردية تزيد الشقاقات وقد تودي بنا إلى انشقاقات جديدة!!
المتروبوليت سابا اسبر
راعي ابرشية نيويورك واميركا الشمالية

 

Comments

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *