بصمة لا تُمحى من ذاكرة الروم
في العاشر من شهر نيسان عام 1821، وقد صادف يومذاك أحد الفصح العظيم المقدس، قام العثمانيون باعدام بطريرك القسطنطينية غريغوريوس الخامس، وذلك إنتقاماً لإندلاع الثورة اليونانيَّة في شبه جزيرة البلوبونيز ضد السَلطنة العثمانية في آذار 1821. وعلى أثر ذلك قرَّرت الحكومةُ العثمانيَّة ضربَ قيادة الكنيسة الأرثوذكسيَّة، والعديد من عامَّة الناس لتُرهِبَ من خلالِهم الشعب بأكملِهِ، فقاموا بسلسلة من الإعدامات للاكليروس والدبلوماسيين من العائلات اليونانية، في شوارع مدينة القسطنطينية المُحتلَّة.
وقد تتوّجت تلك الجرائم بأمر السلطان محمود الثاني إعدام البطريركِ غريغوريوس الخامس ليكون عِبرةً لسائر الروم وإجهاضِ الثورة اليونانية.
فجاء العثمانيون إلى البطريركية، نحو الساعة العاشرة صباحاً، بعدما أنهى البطريرك قدَّاس عيد الفصح، ثم إنتقلَ إلى قاعةِ الاستقبالِ البطريركيَّةِ لتقبُّل التهاني. إذَّاك، بلغه الخبر أنَّ الثورةَ اليونانيَّةَ قد اندلعت، ولمّا سُؤل: “ماذا سيحدث الآن؟” أجاب بهدوء: “الآنَ وفي كلِّ آنٍ لتكنْ مشيئةُ الله”.
ظنَّ البطريرك لما رآهم أنَّهم أتوا للمعايدة منتدَبينَ من حكومةِ السلطان، لكنهم أخبروه أنَّهُ عُزِلَ من منصبِهِ لأنَّه لا يستحقُّ الرتبةَ البطريركيَّةَ وهو جاحدٌ للكرامة التي أسبغَها عليهِ الباب العالي وخائن، واتّهموه بمساندة الثوّار، وبالفشل في ضبط اليونانيين في طاعة السُلطات العثمانية!
قبل إعدامه قادوه إلى السجن أولاً، وهناك تعرَّض للاستجوابِ والتعذيب لبضعة ساعات، فقد كانَ يهمّ العثمانيين أن يحصلوا منه على معلومات عن الثورة ظنّوا أنَّها كانَت بحوزتِه. وفي السجن عُرِضَ عليه إعتناق الإسلام ليُخلِّص نفسَهُ، وكان هدفهم إحباط معنويات الروم وإخماد ثورتهم، لكنَّ جواب البطريرك كانَ بشجاعة وببساطة:
“قوموا بواجبِكم، فبطريرك الروم يموتُ مسيحيّاً أرثوذكسيًاً.”
أُخرِجَ البطريرك من السجن وسِيقَ إلى بوَّابة البطريركيَّة، وهناك شنقوه على البوَّابةِ الوسطى التي تفتحُ على أرضِ البطريركيَّة، وهو بكامل حُلّته الأسقفية. وبقِيَ جسدُه مُعلَّقاً عليها لمُدَّةِ ثلاثةِ أيَّام. ثمَّ أَنْزَلَهُ يهودٌ جنَّدَهم العثمانيُّونَ لهذا الغرض، وأخذوهُ وجرَّرُوهُ في شوارع القسطنطينية، ثمَّ رمَوهُ في مياه خليج البوسفور. غيرَ أنَّ سفينة يونانيَّة تحمِلُ العَلَمَ الروسيَّ التقطَتْ جسدَهُ وأخذتْهُ إلى أوديسا الروسيَّة حيثُ ووريَ الثرى كشهيدٍ وبطل.
في العامِ نفسِه 1821م أَعلَنَتِ الكنيسةُ اليونانيَّة الأرثوذكسيَّةُ قداستَهُ، وقدْ جرَتْ استعادةُ رُفاتِهِ من روسيا إلى اليونان، حيثُ دُفِنَ داخلَ كاتدرائيَّة بشارةِ السيّدة في أثينا. وما تزال البوابة التي شُنِقَ عليها مغلقةً منذ ذلك اليوم إلى يومنا هذا، لا تُفتح أبداً إحتراما وإكراماً لذكراه. تُعيِّدُ له الكنيسة الأرثوذكسية في 10 نيسان من كل عام.
Beta feature
Beta feature
اترك تعليقاً