“ثُلاثيّةُ” الصّلَواتِ المسائيّةِ الخاصّةِ “بزمنِ الصّومِ المُقدّسِ” (الختام)
3 – خدمةُ “الأكاثستوس” (الذي لا يُجلَسُ فيه)، المعروفةُ ب”مدائحِ والدةِ الإلهِ”… إبتِهالُ “الأبناءِ بالنِّعمةِ” إلى “المُمتلِئةِ نِعمةً”
في مقالتِنا هذه، وَهيَ الثالثةُ والأخيرةُ مِنَ “الثُلاثيّةِ” المُخَصَّصَةِ لِصَلَواتِ “زمنِ الصّومِ” المَسائيّةِ، نَتَعَرّفُ إلى خدمةِ “المدائحِ لوالدةِ الإلهِ”، التي تُعتَبَرُ مِنْ أحَبِّ الصّلَواتِ على قلوبِ المؤمنينَ، نَظَراً إلى المَكانةِ الرّفيعةِ التي تَتَمَتّعُ بها والدةُ الإلهِ مريمُ في حياةِ الكنيسةِ… فَهيَ الأمُّ والشّفيعةُ والمُحاميةُ والمُدافِعةُ والمُرشِدةُ… وتَظهَرُ صِفاتُها وألقابُها تِباعاً على إمتدادِ هذه الخدمةِ (كما هيَ الحالُ في سائرِ الرُّتَبِ المُخَصَّصَةِ لها)… وقد أحبَبْتُ أنْ أُطلِقَ على خدمةِ “المدائحِ”، تَوصيفَ “إبتِهالُ الأبناءِ بالنِّعمَةِ إلى المُمتلِئةِ نِعمَةً”، مِنْ ضِمنِ العُنوانِ الرّئيسيّ.
أوّلاً – مُقدّمةٌ تَعريفيّةٌ بِخدمةِ “الأكاثِستوس”:
إنّ خدمةَ “الأكاثِستوس” (وَهوَ الإسمُ اليونانيُّ للخدمةِ، ويَعني “لا يُجلَسُ فيهِ”)، هيَ بِجَوهَرِها صلاةٌ إبتِهاليّةٌ مُوَجَّهَةٌ إلى والدةِ الإلهِ، نَتَأمّلُ مِن خلالها بِسِرِّ التدبيرِ الخلاصيّ الذي تَحَقَّقَ في مِلءِ الأزمنةِ عَبرَ “التّجَسُّدِ الإلهيّ”… وحينَ نَتَكَلَّمُ عَنِ “التّجَسُّدِ الإلهيّ”، لا بدّ مِن ذِكْرِ الدّورِ الأساسيِّ الذي إضْطَلَعَتْ بهِ مريمُ مِن خلال قَبولِها بالمشيئةِ الإلهيّةِ… بذلك، فإنّنا نَتَأمّلُ “بالعَظائمِ التي صَنَعَها اللهُ بها” (كما قالَتْ في نَشيدِها التّسبيحيّ لدى زيارتِها إليصابات)، إذ إنّها تَستَمِدُّ مَكانَتَها مِن أمومَتِها البتوليّةِ، الفائقةِ الإدراكِ، للإبنِ المُتَجَسِّدِ…
وعلى غِرارِ “صلاةِ النّومِ الكُبرى” و”خدمةِ البروجيازميني”، فقد تَكَوَّنَتْ خدمةُ “الأكاثستوس” على مراحِلَ عِدّةٍ، لِتَصِلَ إلى الصّيغةِ التي نَعرِفُها اليوم… وَهيَ حاليّاً مُكَوَّنَةٌ مِن ثلاثةِ أجزاءٍ رئيسيّةٍ، هيَ: (1) “صلاةُ النّومِ الصُغرى”، (2) “القانونُ” ذي التّسبِحاتِ التِّسع، و(3) “النّشيدُ” ذي الأبياتِ الأربَعَةِ والعِشرينَ (المُنَظَّمَةِ ضِمنَ أربعةِ أقسامِ).
على صَعيدِ المُمارَسةِ الطّقسيّةِ، دَرَجَتِ العادةُ أن تُقامَ خدمةُ “الأكاثستوس” في زمنِ “الصّومِ المُقدّسِ” حَصريّاً، بِحَيثُ يُرَنَّمُ كُلُّ قِسمٍ مِن أقسامِ “النّشيدِ” الأربَعةِ، في مَساءِ يَومِ الجمعة مِنَ الأسابيعِ الأربعةِ الأولى للصّومِ (القِسمُ الأوّلُ في يَومِ الجمعةِ الأوّلِ…)، لِنَعودَ فنُرَنِّمُها مُجتَمِعَةً في يَومِ الجمعةِ الخامسِ… على أنْ يُقامَ في السّبتِ الخامسِ عيدٌ خاصٌّ لِوالدةِ الإلهِ، هوَ “سَبتُ الأكاثِستوس” ذو الخَلفيّةِ التاريخيّةِ…
ثانياً – “النّشيدُ” الأصلِيُّ… واضِعُهُ، أسلوبُهُ، تَرتيبُهُ، مَضمونُهُ:
لقد قيلَ الكثيرُ في الهويّةِ المُفتَرَضةِ لِواضِعِ النّشيدِ الأساسيِّ لِخدمةِ “المدائحِ”، لكنّ التّرجيحاتِ تَذهَبُ بِمُعظَمِها إلى القديسِ رومانوسَ “الحِمصيّ” (المُلَقَّبِ ب”المُرَنِّمِ”)… ذلك أنّ النّمَطَ المُتّبَعَ في وَضْعِ “النّشيدِ” يُشيرُ بِقوّةٍ إلى نَمَطِهِ، لا سيّما في البيئةِ التي عاشَ في كَنَفِها وتأثَّرَ بها…
لا نَعرِفُ الكثيرَ عَن رومانوس، سِوى أنّهُ مِن مَواليدِ حِمص (سورية) في أواخِرِ القَرنِ الخامِسِ، مِن أبٍ مسيحيٍّ يَهوديِّ الأصلِ، وأمٍّ مسيحيّةٍ تقيّةٍ… إنتقلَ إلى بيروت حَيثُ رُسِمَ شمّاساً لِكنيسةِ القيامةِ فيها، وعادَ فإنتقلَ إلى القسطنطينيّة حَيثُ رُقِّيَ إلى درجةِ الكهنوتِ… وقد رَقَدَ بالربِّ بَعدَ سنةِ 556م… لهُ مُؤَلَّفاتٌ ناهَزَتِ الألف (1000)، ضاعَ مُعظَمُها في غياهِبِ الزمنِ، وبَقِيَ منها حوالي المئتَين (200)، البَعضُ مِنها مُدرَجٌ في خِدماتٍ كنسيّةٍ شتّى…
وقد تَمَيَّزَ أسلوبُهُ في نَظْمِ الشِّعرِ الكَنَسيِّ، بالتّشابُهِ الكبيرِ مع أسلوبِ المسرحيّاتِ اليونانيّةِ… فَهوَ يُجَسِّدُ لنا أحداثَ التدبيرِ الخلاصيّ، ولا سيّما مَراحِلَ حياةِ الربِّ يسوعَ والعذراءِ مريمَ، بِقالَبٍ شِعريٍّ ساحِرٍ، بِحَيثُ أنّ بَعضَ مُؤَرِّخي الأدبِ اليونانيّ ظنّوا أنّ تلك الأناشيدَ كانت تُمَثَّلُ فعلاً في الكنائسِ البيزنطيّة… والكلامُ عَنِ الأسلوبِ يَجُرُّنا حُكْماً إلى الكلامِ عَن ترتيبِ “النّشيدِ” ومَضمونِهِ…
في التّرتيبِ أوّلاً، هوَ مُكَوَّنٌ مِن أربعةِ أقسامٍ رئيسيّةٍ، كُلٌّ مِنها يَتَضَمَّنُ مُقدّمةً تُسَمّى ب”القنداق”، وعدداً مِنَ المقاطِعِ تُسَمّى ب”الأبياتِ”… فالقنداق يوجِزُ موضوعَ “النّشيدِ” ويَستَعرِضُ أهَمَّ الأشخاصِ في “المسرحيّةِ”… أمّا “الأبياتُ”، فَيَبلُغُ عددُها أربعةً وعشرينَ بيتاً، على عددِ حُروفِ الأبجَديّةِ اليونانيّةِ، وكُلُّ “بيتٍ” يَبدأ بِحَرفٍ مِن تلك الحُروفِ… وتَتَناوَلُ تلك “الأبياتُ” المَوضوعَ بِتَدَرُّجٍ مَنطِقيٍّ، وتُقَدِّمُ الأشخاصَ بالتّرتيبِ، وتَنتَهي دائماً بِلازِمَةٍ يُرَدِّدُها الشّعبُ مع الخورس، هيَ بِمَثابَةِ هُتافٍ يُعطي “النّشيدَ” كُلَّهُ صَبغَتَهُ الخاصّةَ…
أمّا في المَضمونِ ثانياً، فإنّ “الأبياتَ” هيَ سلسلةٌ مُتَمَحوِرَةٌ حَولَ سِرِّ “التّجَسُّدِ الإلهيّ” ومُتَفَرِّعاتِهِ، بِما في ذلك إنعِكاسُ ذلك السِّرِّ على مريمَ بِكافّةِ أبعادِهِ، وَهيَ مُستَنِدةٌ بِشَكلٍ رئيسيٍّ إلى “إنجيلَي الطّفولةِ” عند متّى ولوقا البَشيرَينِ:
فالأبياتُ 1 إلى 12 هيَ تأمّلٌ بِسِرِّ المسيحِ وبِمَراحِلِ التدبيرِ الخلاصيّ، مِن بِشارةِ العذراءِ مريمَ والميلادِ الإلهيّ والأحداثِ المُرافِقةِ، والأشخاصِ الذينَ لهُم علاقةٌ بها (يوسفُ والملائكةُ والرّعاةُ والمَجوسُ و”الهَرَبُ إلى مِصرَ” وسمعانُ الشّيخُ).
أمّا الأبياتُ 13 إلى 24، فَهيَ تأمّلٌ كِتابيٌّ شِعريٌّ روحيٌّ لاهوتيٌّ، في ولادةِ السيِّدِ المسيحِ وظُهورِهِ الإلهيّ والخلاصِ والفِداءِ، والمَوقِفِ اللاهوتيِّ تِجاهَهُ… وَهوَ مَوقِفُ الإيمانِ والصّمتِ والتَّعَجُّبِ والذُّهولِ والقَبولِ، مع الدّعوةِ إلى التّسبيحِ والسّجودِ وتَجديدِ الحياةِ… لأنّنا “إذ قد رَأينا وِلادةً غريبةً”، فَعَلَينا أن نُصبِحَ نَحنُ “خليقةً جديدةً”…
وفي ما يَلي، تَسَلسُلُ الأبياتِ مِنَ الأولى إلى الأخيرة
(1) سلامُ الملاكِ، (2) دَهشَةُ العذراءِ، (3) جَوابُ الملاكِ، (4) الحَبَلُ بالكلمةِ الإلهِ، (5) الزّيارةُ لإليصابات، (6) إضطِرابُ يوسفَ، (7) تَسبِحَةُ الرّعاةِ، ( مَجيءُ المَجوسِ، (9) تَسبِحَةُ المَجوسِ، (10) عودةُ المَجوسِ إلى بِلادِهِم، (11) الهَرَبُ إلى مِصرَ، (12) التّقدمةُ إلى الهيكلِ، (13) الخليقةُ الجديدةُ، (14) الولادةُ الغريبةُ، (15) العذراءُ مَسكِنُ اللهِ، (16) الملائكةُ وسِرُّ التّجَسُّدِ، (17) حِكمةُ اللهِ في سِرِّ البتولِ، (18) تَأَنُّسُ اللهِ وتَأَلُّهُ الإنسانِ، (19) مريمُ مِثالٌ وحِصنٌ للعذارى، (20) الربُّ المُحسِنُ، (21) مريمُ أمُّ النّورِ، (22) الربُّ الفادي، (23) مريمُ هيكلُ اللهِ، (24) تَقدِمَةُ النّشيدِ للعذراءِ.
يُذكَرُ هنا أنّ إيقوناتٍ عِدّةً قد كُتِبَتْ مِنْ وَحِي هذا “النّشيدِ” بأبياتِهِ ال24، فكانَتِ الإيقونةُ الأساسيّةُ تَجمَعُ في طيّاتِها 24 إيقونةً “ثانويّةً” (“ميني إيقونة”)، تُجَسِّدُ كُلُّ واحدةٍ مِنها “بَيتاً” مِنْ أبياتِ “النّشيدِ”…
خِتاماً، لقد دَلَّ النّقدُ الحَديثُ على أنّ “نَشيدَ المدائحِ” (“الرّومانوسيّ”) قد وُضِعَ أصلاً لِعيدِ البِشارةِ (25 آذار)… لكنّهُ تَجاوَزَ مُنذُ الأصلِ مَوضوعَ العيدِ بالذّاتِ، لِيَتَناولَ كُلَّ أسرارِ حياةِ “الثيوطوكوس”…
ثالثاً – التّطَوُّرُ التّاريخيُّ “لِنَشيدِ المدائحِ”
بَقِيَ “نَشيدُ المدائحِ” بِصيغَتِهِ الأصليّةِ خلال القَرنِ السّادسِ وأوائلِ القَرنِ السّابعِ، إلى أنْ جاءَتْ أحداثٌ تاريخيّةٌ مَصيريّةٌ، أصبَحَ لنا مِنْ بَعدِها عيدٌ مُخَصَّصٌ لِوالدةِ الإلهِ، كما أنّهُ أُضيفَ إلى النّشيدِ الأصليِّ “قانونٌ”، لِتُصبِحَ الرّتبةُ على الشّكلِ المَعروفِ حاليّاً…
في لَمحَةٍ تاريخيّةٍ سريعةٍ، نَذكُرُ أنّ بدايةَ القَرنِ السّابعِ تَمَيَّزَتْ بإجتِياحاتٍ لأجزاءَ مُختلِفةٍ مِنَ الإمبراطوريّةِ البيزنطيّةِ المُتَهالِكَةِ، ولا سيّما مَرَّتَينِ مِنْ قِبَلِ الفُرسِ في عامَي 614 و626… لكنّ المَرَّةَ الثانيةَ (626) كانَتِ الأكثَرَ خُطورةً، إذ بَلَغَتْ جَحافِلُهُم أسوارَ القسطنطينيّة (عاصمةِ الإمبراطوريّةِ)، مُحكِمَةً الحِصارَ عليها… حتّى بَلَغَ اليأسُ والقُنوطُ مِنَ السّكانِ أشَدَّهُما.
وقد إستَلَمَ “سِرجيوسُ” بطريركُ المدينةِ، مَهامَّ القيادةِ بِغيابِ الإمبراطورِ هرقل… إلى أن حَلَّتْ ليلةُ السّابعِ مِنْ آب 626، مَوعِدُ هُجومِ الفُرسِ النِّهائيِّ على المدينةِ… فأمَرَ البطريركُ الجَيشَ والمؤمنينَ بالوُقوفِ فوق أسوارِ المدينةِ، وبإنشادِ أبياتِ “نَشيدِ المدائحِ لِوالدةِ الإلهِ” الذي كان وَضَعَهُ رومانوسُ (الشّاعِرُ الحِمصيّ)… وكانَ الشّعبُ كُلُّهُ يُرَدِّدُ بَعدَ كُلِّ “بيتٍ” تلك اللازِمةَ “إفرَحي يا عروسةً لا عروسَ لها”، أو اللازِمةَ الأخرى “هللويا”… وكانَتْ تلك الأناشيدُ المُلهَمَةُ، التي تَضَمَّنَتْ أجمَلَ ما إبتَكَرَهُ الوُجدانُ المَسيحيُّ مِنْ مديحٍ للعذراءِ والدةِ الإلهِ، تَندَفِعُ عَفويّاً على شِفاهِ المؤمنينَ وتَصعَدُ إلى السّماءِ مُتَوَسِّلةً خاشِعَة…
إلى أنِ إستُجيبَتْ صَلَواتُ المؤمنينَ… فَظَهَرَتْ “سيّدةٌ عظيمةٌ جميلةٌ” في السّماءِ، تَرفَعُ يَدَها دافِعةً الجُيوشَ المُهاجِمَةَ إلى الوراءِ، فإذا بالتّخَبُّطِ والتّقَهْقُرِ يَسودانِ أجواءَ هؤلاء… وعند طُلوعِ النّهارِ، إنقَشَعَتِ الرّؤيا، كاشِفةً عَن تَلاشي الأعداءِ المُحاصِرينَ.
فَهَرَعَ الشّعبُ إلى الكنائسِ، ومَلَأَ السّاحاتِ والشّوارعَ… وإرتَفَعَتْ أصواتُ المُرَنِّمينَ تُنشِدُ مِن جديدٍ نَشيدَ “مدائحِ والدةِ الإلهِ”… ولهذه المُناسبةِ، وَضَعَ البطريركُ لهذا “النّشيدِ” التّقليديِّ “مُقدّمةً” جديدةً تُشيرُ إلى أعجوبةِ إنقاذِ العاصمةِ، وتُعلِنُ العذراءَ الطّاهِرةَ “قائدةً لا تُغلَبُ” و”سُلطانةَ المدينةِ المالكةِ”، فكانَ القنداقُ الشّهيرُ “إنّي أنا مَدينتُكِ يا والدةَ الإلهِ” (في أصلِهِ اليونانيّ)… وقد تَحَوَّلَ القنداقُ في ما بَعدُ إلى “نَحنُ عَبيدكِ يا والدةَ الإلهِ”، لِيَتَوَسَّعَ بذلك مَفهومُهُ، فَيَشمَلَ المؤمنينَ جميعاً (ولَيسَ فقط مدينةً مُعيّنةً)… وبِما أنّ الربَّ يسوعَ أعطانا مريمَ أمّاً للكنيسةِ، كَمْ يَجدُرُ بالقنداقِ أنْ يَتَحَوَّلَ إلى “نَحنُ أبناؤكِ يا والدةَ الإلهِ”، لأنّ السيِّدَ نَفسَهُ قالَ أيضاً “لا أدعوكُمْ بَعدُ عَبيداً… بل دَعَوتُكُم أحِبّائي” (يو 15: 15)…
على إثرِ تلك الأعجوبةِ، أمَرَ البطريركُ سِرجيوسُ بإقامةِ عيدٍ سَنَويٍّ إحياءً لتلك الذِّكرى… فكانَ ما أمَرَ بهِ، وكانَ عيدُ “الاكاثِستوس” في السّبتِ الخامسِ مِنَ الصّومِ… وقد دُعِيَ العيدُ بهذا الاسمِ، الذي يُشيرُ إلى “عَدَمِ الجُلوسِ”، لأنّ نَشيدَ “المدائحِ” مُنذُ ذاك الحينِ إلى يَومِنا هذا، يُرَنَّمُ بهِ وُقوفاً إكراماً للعذراءِ، كما تَرَنَّمَ بهِ الشّعبُ القُسطنطينيّ في ليلةِ 7 آب سنة 626 وَهوَ واقِفٌ على أسوارِ مدينتِهِ، يُصَلّي مُتَضَرِّعاً إلى والدةِ الإلهِ لإنقاذِهِ مِن حِصارِ الأعداءِ…
في القَرنِ الثّامِنِ أو التّاسِعِ، أُضيفَ إلى نَشيدِ “المدائحِ” الأصليِّ (أي إلى الأربَعةِ والعشرينَ بيتاً)، “قانونٌ” يَتَضَمَّنُ تِسعَ تَسبِحاتٍ مِنْ نَظْمِ “يوسفَ المُنشِىء”، حاوَلَ فيهِ الشّاعرُ المُحدَثُ تقليدَ “النّشيدِ” الأصليِّ، فَوُفِّقَ تماماً في ذلك… فأصبحَ هذا “القانونُ” يُرَنَّمُ به قَبلَ “الأبياتِ” الأربَعةِ والعشرين…
رابعاً – خاتِمةٌ “مريميّةٌ”
إنّ حَدَثَ “التّجَسُّدِ الإلهيّ” الفائقَ الإدراكِ، هوَ الرّكنُ الأساسيّ “للحَدَثِ المسيحانيّ” بِرُمَّتِهِ. وكانَ لِمريمَ، فتاةِ النّاصِرةِ الوديعةِ، دَورٌ مِحوَريٌّ في إتمامِ ذلك “التّجَسُّدِ” مِنْ خلالِ طاعتِها للمشيئةِ القدّوسةِ… وَهيَ نالَتْ حُظوةً عند اللهِ (كما قالَ لها الملاكُ) مُستَحِقّةً أنْ تَحمِلَ الألوهةَ في حَشاها البتوليّ، بَعدَ أنْ حَمَلَتْها في قلبِها وكيانِها البتوليّينِ…
وقد رأى الآباءُ القدّيسونَ في العديدِ مِنْ صُوَرِ “العهدِ القديمِ”، رُموزاً مُسبَقَةً لِما تَحَقَّقَ في “الحَدَثِ المسيحانيّ” (“العهدِ الجديدِ”)، لا سيّما في ما يَتَعَلَّقُ بِشَخصِ مريمَ العذراء… وقد أبرَزَ مُؤَلِّفُ “نَشيدِ المدائحِ” تلك الرّموزَ “القديمةَ” وكَيفيّةَ تَحقيقِها في شَخصِ مريمَ، التي نّذَكِّرُ دائماً بأنّها تَستَمِدُّ مَكانَتَها مِنِ إرتِباطِها بِسِرِّ إبنِها، الإلهِ المُتَجَسِّدِ… وتَظهَرُ تلك الألقابُ تِباعاً، على إمتِدادِ “النّشيدِ” بأبياتِهِ الأربَعةِ والعشرينَ، ولَنْ نَدخُلَ في تَفاصيلِها هنا…
إنّ مريمَ “سيّدةَ الأكاثِستوس” هيَ في قلبِ التدبيرِ الإلهيّ الهادِفِ إلى خلاصِ البَشَرِ، لأنّهُ هكذا حَسُنَ لدى الربِّ الإلهِ أنْ يُشْرِكَ خليقَتَهُ بِمَشروعِ خلاصِها… وكُلَّما تأمَّلْنا في ذلك السِّرِّ العظيمِ، كُلَّما وَجَدنا كَمْ أنّ البَشَريّةَ غاليةٌ وثَمينةٌ على قلبِ خالِقِها… وقد عاشَتْ مريمُ سِرَّ المسيحِ بِكُلِّ جَوارِحِها… لذلك، فَهيَ تَستَحِقُّ إكرامَنا، لأنّ الربَّ يسوعَ قد أعطانا إيّاها أمّاً وشَفيعةً… وقد وَرَدَ في البَيتِ الرّابعِ: “إنّ مُبدِعَ السّماءِ والأرضِ أعَدَّكِ يا طاهِرَةُ. وسَكَنَ في مُستَودَعِكِ وعَلَّمَ الجميعَ أنْ يَهتِفوا لكِ…”.
فَبِشَفاعةِ سيِّدَتِنا مريمَ والدةِ الإلهِ الفائقةِ القداسةِ، أيّها الربُّ يسوعُ المسيحُ إلهُنا، إرحَمنا وخَلِّصْنا. آمين.
(خريستوفيلوس)
اترك تعليقاً