جبل آثوس المقدس
مقدمة
جبل آثوس المقدس يصح فيها ان تُسمى جمهورية رهبانية ارثوذكسية، تنتشر فيها الحياة الرهبانية بشكل لايمكن وصفه للحاج المؤمن تصدمه صدمة روحية أخاذة بمجرد وطئت قدماه ارض شبه الجزيرة المقدسة هذه، وارتقى جبلها بمتعة روحية ولا أعذب…
فمن يزور الجبل المقدّس للسياحةلأول مرّة يتنازعه إنطباعان متناقضان صعب تلاقيهما. أول إنطباع، وهو مُشجع: جمال المناظر والسلام العميق الذي ينبعث منها. استقبال الرهبان وعظمة الطقوس الكنسية تؤثّر في النفوس بشكل جميل.
أما الإنطباع الثاني فهو غامض: تكريم الإيقونات، إشارات الصليب والإنحناءات المتعددة، وكذلك ومظاهر التقوى عند الرهبان وأحاديثهم التي تذهل الزائر من العالم.
أحدهم قال مرة:” يوجد في ديانة هؤلاء الرهبان من التطيّر بمقدار ما فيه من الإيمان العقلاني”. ردّات الفعل هذه تُظهر الإختلاف العميق القائم بين العالم الذي يأتي منه الزائر، والعالم الذي يعيش فيه هؤلاء الرهبان. هنا يجدر التوضيح أنه ليس هو فقط
عالم هؤلاء الرهبان الذي هو السبب، لأنهم لا يعيشون في إطار مغلق، لأن جبل آثوس ليس هو عالماً مقفلاً على ذاته، فإنه حيوياً مرتبط بعالم ديني وثقافي واسع، هو العالم الأرثوذكسي الكبير الممتد في كل المعمورة، والجبل الرهباني المقدس هذا هو كمثل القلب الروحي لهذا العالم التبادل قائم ومستمر بين الجبل ومناطق عدّة من هذا العالم: لا فقط بين الجبل واليونان وقبرص لجهة الحضور اليوناني، بل أيضاً روسيا، والبلاد السلافية وصربيا ورومانيا وكذلك المشرق المسيحي اي سورية ولبنان والاردن وفلسطين ومصر الذي يشكّل الأرثوذكسيون فيه أقلّيات بين المسلمين وان كانوا الأكثرية بين المسيحيين، ولكنهم دينامكيون. أضف إلى ذلك الجماعات الأرثوذكسية متنامية الحضور في أوروبا الغربية والولايات المتحدة وأفريقيا وأوستراليا التي هي أيضاً أقليّات ولكنها حيّة. يمثّل هذه المناطق، في الجبل، الرهبان القادمون منها وكذلك الحجّاج الذين يأتون إلى الجبل للمنفعة الروحية.
نبذة جغرافية
جبل آثوس هو إحدى شبه جزر خالكيذيكي الثلاث في بحر إيجيه. وشبه جزيرة آثوس هي أكثرهم شرقاً: طولها 60 كيلومتراً وعرضها يتراوح بين 8 و 12 كيلومتر.أما القسم المحيط بآثوس، فهو مؤلف من هضبات منخفضة وسهول منتظمة، هذه التضاريس تتضح أكثر فأكثر، والهضبات تصبح أكثر فأكثر علواً حتى تصل إلى قمة جبل آثوس التي ترتفع عن سطح البحر 2033 متراً.
نبذة تاريخية
منذ القدم يظهر جبل آثوس كمكان إستثنائي ذات التاريخ والمصير المميّزين. فإن المؤرخ الإغريقي”هوميروس” ذكره في كتاباته، والأسطورة تقول أنه كان أحدى مساكن الإله “زوس”. لقد سميت خالكيذيكي في القديم، “أكتي”، وجبل آثوس المتصل بها هو الأقدم ذكراً. تقول الأسطورة إنه في المعركة التاريخية التي نشبت بين العمالقة والآلهة، رميت هذه الصخرة الكبيرة (آثوس) على رأس بوسايدون إله البحر.
في التاريخ أيضاً ذِكر لآثوس في حروب الميديّين، والهزيمة المريعة للأسطول الفارسي بقيادة الجنرال مردونيوس، بحيث غرقت كل سفنه ومات عشرون ألفاً من جنده، في الجانب الجنوبي لشبه الجزيرة وذلك عام 419 قبل الميلاد.وحاول كزركس (Xerxes)، قاهر الجنرال مردونيوس، أن يحطّم الأرض التي تصل بين آثوس والقارة لحماية سفنه من خطر أمواج البحر.
كما أراد دينوكراتوس، المهندس في جيش الإسكندر الكبير، أن ينحت آثوس على شكل تمثال عملاق لملكه، حاملاً بإحدى يديه مدينة، وفي الأخرى كأساً كبيرةً تجري منها مياه نهر غزيرة تصب في البحر.
مسيحياً
في التراث المسيحي، أنه فيما كانت والدة الإله مع يوحنا الإنجيلي في سفينة متجهة إلى قبرص، هبّت عاصفة عنيفة حادت بالسفينة إلى شواطىء آثوس. في هذا الموقع شُيّد في وقت لاحق دير الإيفيرون (Iviron). ونظراً لجمال الموقع ولكون هذه الأرض استقبلت والدة الإله، طلبت من إبنها أن يقدّمها لها هدية. عندها سُمع صوتٌ قائلاً: “ليكن هذا المكان لك، ليكن بستانك وفردوسك وملجأ كل الذين يبتغون خلاصهم.”
الحياة الرهبانية
انطلقت الرهبنة في شبه الجزيرة، حوالي القرن السابع للميلاد. الرهبان الأوائل أتوا إلى هذا المكان المنعزل بمناخه المميّز يبحثون عن خلاص نفوسهم. أتوا من نواحي كبادوكية ومصر وسورية الكبرى من حيث طردهم الإسلام. إضافة الى بدعة محاربة الأيقونات أيضاً التي ازدهرت لعدة عقود في القسطنطنية أنمت عدائية الأبطرة والحكّام والشعب للرهبان والحياة الرهبانية.
لكن هجرة الرهبان إلى آثوس، لم تكن بلا اصطدام مع الرعيان وقطعانهم الذين كانوا يحتلّون المنطقة.
لذلك وفي عام 885 مسيحية، صدر مرسوم مختوم بخاتمه الذهبي، من الأمبراطور الرومي باسيليوس الأول، منح فيه آثوس حصرياً للرهبان ومنشآتهم. ورغم استقرار النساك الأوائل على ضفاف شبه الجزيرة إلا أن المستوطنات الرهبانية إنتقلت، لاحقاً، إلى المرتفعات والمنحدرات التي يصعب الوصول إليها حماية من القراصنة المسلمين (Sarrasins)
أخذ عدد الرهبان يتزايد تدريجياً. الجماعات الأولى انتظمت بشكل لافرا (lavras)، كالتي في فلسطين، حيث لا توجد قواعد صارمة فيما يخص الحياة المشتركة فيها.
في العام 963 مسيحية، أخذ الأمبراطور الرومي نيكيفوروس فوقا على عاتقه تنظيم الحياة الرهبانية في آثوس، بحسب أسس وقواعد محدّدة. فبعث إلى هناك صديقه ومعرّفه أثناسيوس الذي أصبح فيما بعد أول منشىء للحياة الرهبانية المشتركة في آثوس.وفي العام 963 أيضاً، أنشأ دير اللافرا الكبير. لم يعد هناك أكواخ خشبية بل بناء حجري يتّبع الرهبان فيه قوانين الحياة والصلوات المشتركة. هذه القوانين أو “التبيكون” استلهمت من القوانين المطبقة في دير القسطنطينية الكبير “الستوديون”
ابتداء من القرن الثاني عشر، جاء رهبان أرثوذكسيون من جنسيات مختفلة ليستقرّوا مع اليونانيين/ جيورجيون وروس ولاتين وصربيون/. وفي القرن الثالث عشر المسيحي، عانى الرهبان في الجبل المقدّس الأزمة الحاصلة في الكنائس في المشرق. استمرّ الوضع هكذا حتى القرن التالي على عهد الأمبراطور الرومي أندرونيكس الثاني الذي نشر السلام في الجبل من جديد.
شهدت هذه الفترة أيضاً اضطرابات بسبب الغزوات المتتالية للقراصنة المسلمين. ذُبح فيها عدد كبير من الرهبان، وأُحرقت أديرة كثيرة. كذلك نُهبت محتويات الأديرة النفيسة أو حُطِّمتْ. في ما بعد ساهم الأباطرة الروميون وأمراء صربيون في إعادة إعمار ما تهدّم من الأديرة.
أما القرن الخامس عشر المسيحي، فقد شهد فترة من السلام والنمو الروحي في الجبل إلى حين استولى الأتراك على تسالونيكيا عام 1430. مذ ذاك وقع الجبل تحت سلطة السلطان مراد الثاني، ومحمد الثاني الفاتح من بعده الذي استولى على القسطنطينية عام 1453. شكّل آثوس للمسلمين موضعاً ذا قيمة روحية عالية، فكان بنظرهم “البلد الذي اسم الرب مبارك فيه نهاراً وليلاً، ومأوى الفقراء والغرباء”. لاسيما والسلطان محمد الفاتح، نصب الراهب الآثوسي جناديوس بطريركاً على القسطنطينية بيده، وسلمه العكاز، ووضع التاج على رأسه، تماماً كما كان يفعل الأباطرة الروميون.
رغم ذلك واجه الجبل أزمة اقتصادية كبيرة، سببها الضرائب الهائلة المفروضة عليه من قبل السلطات العثمانية، ومصادرتها لأملاكه. اضطرت حينها الأديار لإتباع نظام إيديوريتمي بحيث يتبع كل راهب نمطه الخاص من الصلوات والعيش. لم تعد الأديرة في عهدة رئيس(Higoumene) (رئيس حظيرة او ارشمندريت)، بل هيئة مؤلفة من عدد من الأعضاء.
بسقوط القسطنطينية واستيلاء العثمانيين، ما كان للجبل المقدّس، ليستطيع الإستمرار تحت الضغط العثماني لولا المساعدات السخية الآتية من روسيا ورومانيا ومولدافيا وأوكرانيا والقوقاز. ووجدت اليونان المحتلة في جبل آثوس المحامي عن تراثها الفكري والروحي. وقد تثقف الكثير من اللاهوتيين والمفكرين في الأكاديمية الآثوسية. هؤلاء سوف يشكّلون النواة للنهضة اليونانية.
في العام 1821، شكلّت الثورة اليوناينة مرحلة جديدة في تاريخ الجبل المقدّس. وانضم الكثير من الرهبان إلى مواطنيهم في مقاومة العثمانيين. بعضهم لم يعد إلى ديره إلا بعد عشر سنوات من النضال الضاري، اي بعدما تحررت اليونان عام 1830.
في الفترة اللاحقة، وقع الجبل المقدس في سبات. فقد ابتدأ الرهبان يشيخون، ولم يكن هناك من يخلفهم. المريدون الشبّان كانوا قليلين. على هذا عانى الكثير من الأديرة الإهمال. ولم يتحسّن الوضع كثيراً إلا حوالي العام 1970، حين بدأت مجموعات شابة تحمل مشعل الحياة الرهبانية.
الحياة الرهبانية في العصر الحديث
اليوم يتألف جبل آثوس من عشرين ديراً كبيراً، والكثير من المنشآت التابعة لها. إدارة الجبل تسري بموجب ميثاق حُرّر عام 1924 و صُدّق عليه من قبل الدولة اليونانية عام 1926. جبل آثوس له كيانه المستقل ضمن الدولة اليونانية وهذا النظام موافق عليه من قبل المجموعة الأروبية. يمارس المجلس المقدّس السلطة التشريعية في الجبل، وهو مؤلّف من عشرين عضواً، رؤساء أديرة أو شيوخاً (متقدّمين) من كل دير. أما السلطة التنفيذية، من ناحية أخرى، فهي منوطة بالـ”Sainte Epistasie ” وهو مجلس مؤلّف من أربعة أعضاء، كل عضو يمثّل أربعة أديار. ويقيم الحاكم المدني في آثوس في مدينة كارييس، وهي المدينة الوحيدة والصغيرة في شبه الجزيرة. وهو يقوم بدور وزير الخارجية والمسؤول عن تطبيق الميثاق واحترام الأمن العام.
الزيارة والحج
يمنع على النساء زيارة الجبل المقدس بتاتاً وأياً كانت صفتهم، بينما كل الحجاج الذكور مرحب بهم، أرثوذكساً كانوا أو غير أرثوذكس، بشرط طلب إذن الدخول من “مكتب الحجاج” في تسالونيكيا في اليونان.
ايقونات الجبل المقدس
تحفل اديار الجبل المقدس ال22 بأيقونات مقدسة حُفظت في هذه القلعة الروحية ومعظمها هُربت او سلكت طريقها بأعجوبة ناجية من دمار الحقد الديني وهي في الاديرة:
دير اللافرا الكبير: عذراء إيكونوميسا
دير اللافرا الكبير: عذراء كوكوزاليسا
العذراء التي أصيبت بطلقة رصاص (Pyrovolitheisa)
العذراء التي يسيل منها الزيت (Elaiovrytissa)
عذراء البئر (Ktitorissa or Vimatarissa)
ديرإيفيرون: أيقونة البورتايتيسا
دير الخيلانداري: أيقونة والدة الإله ذات الأيدي الثلاث
دير ديونيسيو: أيقونة عذراء المديح
دير كوتلوموسيو: أيقونة العذراء المحامية الرهيبة
دير بانتوكراتور: أيقونة الييرونديسا – رئيسة الدير
دير زوغرافو: أيقونة المديح (Proangellomeni)
دير زوغرافو: العذراء المستجيبة Epakouousa
دير زوغرافو: أيقونة القدّيس جاورجيوس الغير المرسومة بيد
دير دوخياريو: أيقونة العذراء Gorgoepikoos السريعة الإستجابة
دير فيلوثيو: أيقونة القبلة الحلوة Glykophilousa
دير فيلوثيو: أيقونة الييرونديسا
دير القدّيس بولس: العذراء المفيضة الطيب –Myrrhovlytissa
دير كزينوفونتوس: إيقونة العذراء القائدة Hodegetria
دير غريغوريو: إيقونة العذراء ملكة الكل (Pantanassa)
دير كونستامونيتو: والدة الإله المستجيبة ِ(Antiphonetria)
أهمّيّة جبل آثوس الرّوحيّة
لقد انفتح العالم الروحي، كما انفتح العالم المادي بعض على بعض. في القرون السابقة كنّا نتحدّث كثيراً في مجتمعنا الكنسي عن بريّة مصر ووادي النطرون، أيام بدايات الرهبنة الأرثوذكسيّة منذ زمان القدّيس أنطونيوس الكبير في القرن الرابع الميلادي والقدّيس باخوميوس وصيصوي وغيرهم، وبعدما كتب الأدب النسكي جهادات رهبان سورية: محيط دمشق وغوطتها وقاسيون، والقلمون، والعربية وحوران، حمص ووادي النصارى، وحماه الأندرين، وادلب واريحا والمدن المنسية، ورهبان القورشية والسمعانين العموديين الكبير والصغيروبطاح حلب، ووادي العمق ومنطقة انطاكية، وفي هذه المناطق عاش عشرات الوف الرهبان، وكذلك في جبل لبنان، ومنطقة صحراء فلسطين ورهبان دير القدّيس سابا وبريّة الأردن وتوبة القدّيسة مريم المصريّة، ومنذ القرن الحادي عشر حين تفجّرت أصقاع وغابات روسيّا عن جهادات قدّيسين مثل أنطونيوس وثيودوسيوس أهل كهوف كييف، وسيرافيم ساروفسكي وسيرجيوس رادونيج وباييسيي وفيليتشكوفسكي. واليوم نذكر خصوصاً جبل آثوس، جبل العذراء القدّيسة حيث تبقى هي المرأة – السيّدة – الوحيدة التي دخلت الجبل ولا تدخله قدم امرأة أخرى من بعدها، في بلاد اليونان.
يعد هذا الجبل المقدّس وعبر ما يزيد عن الألف سنة، في حياة الكنيسة وفي ضمير المؤمنين التائقين والساعين إلى حياة القداسة الفردوس الرهباني الداعم للحياة الروحية الأرثوذكسية بتلوناتها القومية.
دير الميتيورا
الرهبنة في مفهومها عند الكنيسة هي الشهادة حباً بالرب يسوع، هي استشهاد بديل، عن مئات الوف الشهداء في القرون المسيحية الأولى، حيث يعبر فيها الراهب الحقيقي بعد استقرار المسيحية ووقف الاضطهادات، عن توقه للاستشهاد حباً بالرب يسوع واقتداء به باستشهاده على الصليب.
في الرهبنة صار بعض المؤمنين به ينذرون أنفسهم لسلوك الدرب نفسه، درب قهر العالم المادي في أجسادهم وأعراقهم وأتعابهم وأصوامهم وصلواتهم ودموعهم، لاستئصال أهوائهم وتنقية قلوبهم حتى تصير مسكناً للرب القدّوس.
بعد السقوط، صار الكون بحاجة إلى فداء وبعد فدية السيّد صار هذا عمل كل من يكرّس نفسه لخدمة الرب وخصوصاً الرهبان.
“وجهك يا الله أنا ألتمس” (مز 27: 8) بعيداً عن ضجيج العالم، يصعد الراهب إلى ديره حاملاَ معه خطيئته وخطيئة العالم ليغسلها بالدموع والأصوام والصلوات والسجدات وإماتات الأهواء حتى ينقّي ما في الصحفة والقلب ليستقبل النور ويصير هو نوراً من نور الرب…
جبل آثوس، جبل الشهادة والنور والصلاة. إليه يحجّ كلّ من تشتاق نفسه إلى ديار الرب، إلى الخلوة مع حبيبه، في الخدر المزيّن بنباتات جهاداته وأعراقه ونِعَم وتعزيات إلهه… هناك عمل الفداء يستمر يومياً، إنه المثال والمحجّة الروحيّة، إنه أرض القداسة، هناك يتواصل الليل بالنهار، فليل الرهبان يلتمع بنور الشموس المضاءة في تمتمات إسم يسوع وفي تراتيل وخدم أبقت على تراث الكنيسة الأرثوذكسيّة حتى يومنا هذا، هناك تطبّق الوصيّة الإنجيليّة في الحب والموت والقيامة، هناك ينزل الراهب إلى جحيم سقوطه ليرفعه الرب إلى قيامته والعالم حوله… كل دير أرثوذكسي هو جبل آثوس وجبل آثوس هو في معظم الأديار، حيث تستقر الذخائر المقدّسة من الأحياء والراقدين والحياة التي لا نهاية لها، حياة التماس وحضور الرب يسوع.
زيارة الجبل
إذا نظرت الجبل من بعيد أو درت حوله في باخرة، وهذا وحده المسموح به للنساء أو للغرباء، والدخول إلى الجبل يكون في بعض الأحيان سهلاً، وفي الأوقات الأخرى صعباً، ترى مئات الأديار والمناسك مغطّاة بالغمام وبالأشجار وبالصخور والمزالق الوعرة، وبالثلوج في الشتاء ويكلّل قمّته كنيسة التجلي. هذه الجبال هي للنسور، وللذين يعرفون الصبر والقسوة على هذا الجسد الضعيف، والنفس الرّخوة التائقة إلى الرّاحة والتلذّذ بأنماط المعيشة السهلة.
طرقات الجبل التي توصل الأديار أو المناسك بعضها ببعض، ترابية مشقوقة بالأرجل والمعاول والرفوش… وما زالت إذ يغطّيها الثلج في الشتاء تضيع، إلا تحت أقدام العارفين الطريق، فلا يضلّون. وعندما تصل إلى منسك أو إلى دير يلقاك وجه راهب معروق بالدموع والغربة عن مقاييسك واهتماماتك الدنيويّة، ربّما يبتسم لك، أو يقدّم لك كأس ماء بارد، أتى به من خارج حائط الغرفة، من بئر أو “حنفيّة”، من الحديقة القريبة مع قطعة حلوى. وإذ تدخل ترى حولك الضروري الضروري من الأثاث الخشبي المشغول مع القش. وكل أو غالبية الأديار مبنيّة من الخشب، حيطانها العالية أو القليلة العلو مكتوب عليها آثار حريق نكبات شتى، ابتعلت نيرانه جزءاً منها أو أبقت على القليل، فأعادت بنيانها الأيدي الخشنة المشقّقة بالعمل في زراعة الحبوب البسيطة أو الخضار حول الدير، أو حفر علب خشبية للبخور، أو صنع صلبان للبركة أو مسابح لصلاة يسوع يشتريها الزوّار، فتكون هذه مساعدة للرهبان في عيشهم.
الضيافة الروحية
الضيافة في جبل آثوس هي ان تصل إلى المكان، وتدخل في صمتك الداخلي العميق حتى تلقى جحيم نفسك مكشوفاً أمامك، فإما تردمه بالزيارة السريعة أو تبقى مكانك كاشفاً عري خطيئتك أمام شيخ القلاّية، وبالصلاة التي تبدأ في نصف الليل وتستمر حتى ظهر اليوم الثاني في بعض الأحيان. وبالرجوع إلى شظف وبساطة العيش فتعرف انك لست بحاجة إلى حضارة هذا القرن، الذي همّه ان يلهيك عن الحقيقة. حقيقة الإله وابتعادك عنه فتعود إلى بساطة الخليقة الأولى.
هذه هي معركة الراهب الأساسية. وعيه سقطته في عمق أعماق روحه ونفسه وجسده وكيانه. هناك يصرخ عقله به أن يهرب من جحيم النيران المستعرة بوجهه لالتهامه. وهناك انتظار وصبر وصمت وثبات روح والتماعة رجاء: الرب قام.
خاتمة
ليس جبل آثوس عبارة عن مزارسياحي مسيحي رهباني، يسعى الإنسان الذي يحب المعرفة أن يذهب ليكتشفه، ويحدّث عنه وعن انطباعاته حوله، من منطلقه هو ونظرته الخاصة. أنت لا تذهب إلى جبل آثوس لترى شيئاً بإمكانك ان تحدّث عنه. فإما أن تذهب لتلقى ما تبحث عنه روحك وتوقك إلى الكمال الإلهي في الرهبنة والصلاة وفي الاختلاء العميق مع ذاتك، أو تبقى سائحاً تعود لتضع فوق رفوف مكتبك صوراً ومناظر وعلب بخّور ومسابح وكتباً وما تكون قد لممته من زياراتك للقلالي أو المناسك أو الأديار. فجبل آثوس أو بستان العذراء هذا، هو دخولك العليّة، حيث يجتمع التلاميذ حول المعلّم للعشاء وكسر الخبز قبل الإطلاق الكلّي للحياة على الصليب، وجبل آثوس هو اقتبالك الدفن لثلاثة أيّام ونزولك إلى الجحيم، ورجاء كل نفس ملتاعة على سقوط الكون والإنسانيّة والمتشوّفة إلى نور القيامة.
جبل آثوس اليوم هو بمثابة ثابور كل نفس ارتهنت بكلّيتها للرب خالقها. هو انفجار العشق في النفس للإله… هو الغيرة الناريّة التي تأكل الروح، فلا تعود ترى علّة لوجودها إلا بالعيش ليل نهار مع خالقها… انه سلالة الحب الإلهي المفروز في أرض الأحياء منـذ أول البشريّـة. إنه الأنـا المصلوبة طوعاً على المخلّص الرب يسوع المسيح لتقول له:”يا أنا أنت”… “تعال تعال يا ربّي ولا تبطئ”.
مصادر البحث
جبل آثوس المقدس بابا نطونيو تعريب البطريرك الياس الرابع
موقع دير عائلة الثالوث الأقدس
ويكيبيديا… الموسوعة الحرة
Beta feature
Beta feature
Beta feature
Beta feature
Beta feature
Beta feature
Beta feature
Beta feature
Beta feature
Beta feature
اترك تعليقاً