جزيرة أرواد.. مملكة فينيقية على الساحل السوري
الموقع

تتألف صخور الجزيرة من توضعات طينية حديثة تعود للحقب الجيولوجي الرابع تغطي صخوراً رملية تعرف بـ «حجر الرملة» من العصر البليوسيني من الحقب الثالث، تليها طبقات من صخور المارن والغضار والكلس من العصر الكريتاسي من الحقب الثاني. وتظهر صخور الرملة وما يليها على سواحل الجزيرة وخاصة الغربية منها حيث ترسم شرفاتٍ وجروفاً ساحلية كوَّنها الحت البحري. وتكثر الحفر والتجاويف على امتداد السواحل الصخرية, كما يظهر النحر الساحلي وعتبة الحت البحرية في أجزاء كثيرة من الساحل الغربي المعرض لضربات الأمواج المباشرة. أما الجانب الشمالي الشرقي من الجزيرة فأكثر تعرجاً وغنى بالرمال, تظهر فيه ثلاثة رؤوس صغيرة, اثنان منها عند النهايتين الشمالية والجنوبية للساحل الشرقي قام الإِنسان بتمديدهما بلسانين مبنيين بحجارة ضخمة أبعادها 3×5×2م, يحتضنان مرفأ أرواد.
ولقد تم تحسين هذا المرفأ وتوسيعه عام 1966 ببناء مكسر رئيس في الشمال والشمال الشرقي طوله 575م متصل بالرأس الشمالي, ومكسر ثانوي طوله 132م متصل بالرأس الجنوبي (القبلي). ويقسم رأس الفدوة, البارز في منتصف الساحل الشمالي الشرقي, المرفأ إِلى حوض (الشمالية) وحوض (القبلية), إِضافة إِلى رصيفين صغيرين أقيما في هذين الحوضين. وتتبع الجزيرة صخرة صغيرة في شمال غربها تكاد تلتصق بالساحل تعرف باسم «بنت أرواد». أما تسمية «بنات أرواد» فتطلق على الجزر الصخرية الصغيرة الواقعة جنوب أرواد على امتداد محور طولي (شمالي – جنوبي) على مسافة نحو 15كم, وهي «جزر الحبيس» و «أبو علي» و«موشارة» (أوميشرون) و«الجورة» و«تبة الحمام». وتعرف الجزر الثلاث الأخيرة بجزر المخروط لتجمعها على شكل مخروط. وبنات أرواد صخرات غير مسكونة تطغى مياه البحر على معظمها في حالات المد والأمواج العالية باستثناء جزيرة الحبيس التي ترتفع مقدار 5-6م فوق سطح البحر. وتذكر المصادر التاريخية أن تسمية «بنات أرواد» كانت تطلق على المدن الساحلية التابعة لمملكة أرواد الفينيقية أمثال عمريت وجبلة وعرب الملك جركس وبانياس وتل الغمقة وغيرها.
ومناخ أرواد متوسطي بحري أمطاره شتوية وخريفية وربيعية, متوسطها السنوي بحدود 800م. تراوح حرارتها بين 27 و7 درجات ويندر أن تتدنى إِلى الصفر. ورطوبتها عالية تصل إِلى أكثر من 90٪ في الصيف وتحوم حول 60٪ شتاءً. وتتعدد الجهات التي تهب منها الرياح ولكل منها تسمية محلية : فـ «الملتم» ريح تهب من الجنوب الغربي و«الشلوق» من الجنوب الشرقي و«التحتاني» من الشمال, وغير ذلك من تسميات مرتبطة بالملاحة. وللأرواديين خبرة بأحوال الجو والتنبؤ بها. ويسبب الضباب الربيعي المسمى «سريدا» حجب الرؤية فتتوقف حركة المراكب.
وتنعدم المياه العذبة السطحية والينابيع في الجزيرة, فيغدو اعتماد سكانها على مياه الأمطار التي كانوا يجمعونها في حفر وخزانات وعلى المياه العذبة المنبجسة من قاع البحر على شكل ينابيع تعرف باسم «الفوارات» في منتصف المسافة تقريباً بين أرواد وطرطوس, حيث كان الماء يؤخذ منها بوساطة قمع من الرصاص شبيه بالجرس متصل بأنبوب جلدي. وتعد هذه الفوارات أقدم ينابيع بحرية عرفها الإِنسان واستعمل تقنية (القمع المقلوب) في استغلالها. ويشرب الأرواديون منذ عام 1953 من مياه بئر حديثة حفرت في الجزيرة, دعمت ببئر أخرى ثم ثالثة في منتصف السبعينات, إِضافة إِلى انتشار آبار خاصة في الدور إِلى جانب برك وأحواض جمع مياه المطر. ويعد وصول مياه نبع السن على الساحل السوري إِلى دور أرواد نهاية أزمة مياه الشرب للأرواديين.
التسمية
تاريخ أرواد

السكان
واقعها
أرواد المعاصرة ناحية تابعة لطرطوس عدد سكانها 5016 نسمة بحسب تعداد السكان لعام 1994, لكن واقع المسجلين من أبنائها يزيد عددهم على 11,500 نسمة يعمل معظمهم خارجها.
تتوسط السوق الرئيسة الجزيرة حيث الحوانيت وبائعو الخضر والفواكه والمخابز الثلاثة. وهناك عدد من المطاعم والمقاهي على الأطراف الشرقية والجنوبية للجزيرة. أما المقبرة ففي الجنوب الغربي. وتنتشر المساكن على باقي أرض الجزيرة متراصة متلاصقة, وحاراتها ضيقة متعرجة لمرور المشاة فقط ولا يوجد في الجزيرة سيارات أو عربات. وأرض الحارات مرصوف أكثرها بالإِسمنت وأقلها بالحجارة. ومعظم الدور مؤلف من طبقتين ومع تزايد أعداد السكان أخذ عدد الطبقات بالازدياد حتى أربع. ومادة البناء كانت الحجر الرملي فأصبحت الإِسمنت المسلح, وسقوف المنازل مستوية مع انحدار بسيط. وتقسم أرواد إِلى حارتين رئيستين هما القبلية والشمالية, يفصل بينهما السوق. وهناك حارات أصغر كحارة السوق وحارة شيخ شرف الدين وحارة الفوق وغيرها.
وفي أرواد الكثير من المعالم الأثرية أهمها المرفأ والسور والقلعة والبرج, وقد كشفت الدراسات الأثرية آثاراً وأطلالاً مغمورة بمياه البحر التي ارتفع مستواها منذ أواخر العصر الحجري الحديث حتى اليوم عندما ساد مناخ دافئ وازداد حجم مياه البحار والمحيطات.
مصادر الرزق

أرواد جزيرة بحرية عماد حياة سكانها صيد السمك والإِسفنج والعمل البحري وتوابعه, فأهلها بحارة وصيادون بالدرجة الأولى. ويتم الصيد بمراكب صغيرة تعرف بـ «الفلوكة» أو «اللنش» محلياً, مصنوعة من الخشب تسيرها محركات. ويستخدم الصيادون الشباك والشصوص (الشرك محلياً) ويكون الصيد ليلاً. وأهم أنواع الأسماك السلطان إِبراهيم والفريدي والرملي وهو أجودها, يليها السردين والبلميد (الطون) والسرغوس. ويباع المحصول اليومي في (ساحة السمك) في طرطوس.
ويستخرج الأرواديون الإِسفنج من عمق يُراوح بين 20-50م ومن أنواعه: الحقيقي المخزني والحقيقي الناعم والإِرسينية. وفي أرواد مشاغل وحيازات لصنع القوارب والمراكب وصيانة محركاتها, وتصدر مراكبها إِلى الموانئ السورية واللبنانية وإِلى ليبية والأردن أحياناً. وهناك بعض الأعمال التجارية التي يمارسها السكان في الجزيرة نفسها, أو مع البر السوري ولا سيما في مدينة طرطوس. وللوظيفة السياحية أهمية متزايدة بارتفاع أعداد زوارها من البر السوري يوماً بعد يوم, يدفعهم إِليها أن أرواد الجزيرة الوحيدة المأهولة على الساحل السوري كله. ولقد رافق ذلك قيام بعض الصناعات السياحية من الخشب والصدف وهي آخذة بالازدهار.
ارواد في عهد الفرنجة
ولكن جزيرة أرواد استخدمت قاعدة بحرية لأساطيل الدول الإِيطالية ( بولونيا وجنوة) في حقبة الغزو الفرنجي وأخذت تدعم وتساند فرنجة تولوز في عمليات الهجوم على طرطوس واستقر فيها فرسان الهيكل (المعبد) فزادوا في تحصينها, ولاسيما بعد أن خرج الفرنجة من السواحل أصبحت المركز الرئيس ليعقوب الطرطوسي للإِغارة على الساحل بين وقت وآخر إِلى أن دخلها بعد معارك شرسة قائد الأسطول سف الدين المنصوري مع قواته في أيام الملك الناصر محمد بن قلاوون عام 702هـ – 1302 م ودُمرت أسوارها في هذا الصراع.


تناوب على أرواد المماليك ثم أهملت وقل شأنها وألحقت إِدارياً بنيابة طرابلس. وأتى العثمانيون وحسنوا في قلعتها زمن السلطان سليمان القانوني، وشُيّد فيها حصنان صغيران في إِثر غارات القراصنة اليونان ونُقل إِليها السكان من قلعتي صلاح الدين والمرقب وخصصت لهم رواتب ووقعت بينهم وبين القراصنة مناوشات أسفرت عن فوز حُماة الجزيرة، وأسر بعض القراصنة وتعلم الأرواديون منهم فنونهم في الملاحة ثم تغلبوا عليهم.
وقد نزلت البحرية الفرنسية في أرواد في الحرب العالمية الاولى بقيادة القومندان ترابو بعد مفاوضات مع وجهاء المدينة وتمكن من إِخضاع هذه الجزيرة للاحتلال الفرنسي سنة 1915 قبل إِبرام معاهدة سايكس – بيكو وأصبحت كل معاملاتها تمهر بخاتم حكومة أرواد وأصدرت طوابع وجوازات سفر وبطاقات شخصية، إِلى أن ضُمت إِلى سورية بعد المعاهدة المذكورة. وأسهمت أرواد إِسهاماً فعالاً في تقديم المساعدة إِلى سكان جبل لبنان ضد السفاح التركي جمال باشا ونُقل قسم من أهلها إِلى قبرص ثم جعلت فرنسة من قلعتها، في مرحلة انتدابها على سورية، معتقلاً للأحرار والرجالات الوطنيين, وقد أسهمت أرواد في مقاومة الاحتلال الفرنسي حتى الجلاء (1946).
اكتشافات أثرية

رحلة من اليابسة إلى اليابسة
وعلى حافة رصيف بمرفأ طرطوس، المدينة الساحلية المطلة بوداعة قبالة المتوسط، تصطف قوارب خشبية مخصصة لنقل الركاب وِجهتها جزيرة ارواد
وتبقى “جزيرة أرواد” التي تقع في السواحل الشمالية، وتبلغ مساحتها 20 هكتاراً، الأرض السورية الوحيدة التي عاشت أعوامها الماضية بسكينة وسلام داخلي بعيداً عما شهدته البلاد من حروب ومعارك طاحنة على مدار عقد من الزمن، وكانت بمنأى عن نيران الفرقة والفتن، وما زال يخالج سكانها حسرة لحال ما ألمّ ببلادهم، وإن كان حاجز البحر الوحيد ما يفرق بين اليابستين.
بهذه المراكب الخشبية يتوافد الركاب من قاطني أرواد أفواجاً بأوقات معروفة مسبقاً، فلا وسيلة سوى القوارب بمحركات الدفع الآلية قادرة على أن تقلهم إلى مخادعهم، أو ممن يقصد أرواد للزيارة السياحية، ودونها ليس على الأرواديين إلا المبيت في مدينة طرطوس، والسفر في اليوم التالي.
بحارة بالفطرة
الطريق إلى أرواد في وقت الظهيرة صيفاً سيمنح الزائر مع مدة الانتقال فيضاً من المتعة ممزوجة بتشويق المغامرة، لا سيما ما يحيط أرجاء القارب من مياه أشبه بكميات من اللؤلؤ البراق بفعل أشعة الشمس التي أهدت خيوطها للبحر سالبةً منه زرقته، ومنحته كثيراً من الدفء.
أهالي الجزيرة الغارقة بالتاريخ (أرادوس) باليونانية كانت في زمن سابق، مملكة لـ”الفينيقيين”، وكما هو معروف فإن الفينيقيين استوطنوا بلاد الشام في الألفية الأولى قبل الميلاد، وتمتد جغرافيتهم باسم فينيقيا على طول الساحل الشرقي للبحر الأبيض المتوسط والمناطق المجاورة لها مع جبال الكرمل كحدود طبيعية.
المدينة الغافية وسط المتوسط
وتغمرك مع أول إطلالة من أعلى نقطة بقلعة الجزيرة الهدوء والسكينة، وحده هدير الأمواج الوافد إلى اليابسة من يقضّ مضجع الصمت المسيطر على المكان، لا أبواق سيارات ولا تلوث بالهواء في حين يطغى اللون الأبيض المطلي بجدران البيوت السكنية وتتوحد في ما بينها بالشكل والتصميم حتى يتخلل اللون الأزرق أبواب ونوافذ المدينة.
وحده الضجيج العابر ما يسري في مدينة الصمت ليس سوى ما يصدر من نداءات متقطعة لأطفال يلعبون، بينما يفضل الباعة الصمت في أسواق المدينة المتواضعة بالحاجات والسلع الغذائية والاستهلاكية، أو حتى في أزقة الجزيرة الضيقة، في وقت ينكب فيه حرفيون يحولون أصداف البحر إلى تحف فنية ثمينة تصلح كهدايا تذكارية يقتنيها السياح الذين انخفض عددهم بشكل كبير في الفترة المؤلمة التي عاشتها وتعيشها سورية.
وتنتشر المقاهي القديمة على طول الكورنيش المواجه للبحر بكثافة، يتوزع بداخلها على طاولاتها ومقاعدها الخشبية ثلة من البحارة والصيادين، أو صانعي السفن في فصل الشتاء، هنا يحتسون الشاي، ويتبادلون أحاديث شيقة عن حياة البحر والمعيشة.
وعلى شاطئ الجزيرة تزدحم قوارب صيادي الأسماك، ومعها يعمل من دون توقف مصلحوا شِباك الصيد، عبدالله بلقيس، بصحبة صيادين منهم تقاعد عن العمل،
والارواديون يقولون بفخر: “صنعت أرواد السفن الخشبية، وما زالت هي المدينة الوحيدة التي تصدر للدول هذا النوع من المراكب”.
السفن صناعة الآباء والأجداد
ظلت الجزيرة الشهيرة بصناعة السفن الخشبية منذ القدم ملاذهم الوحيد، فالبحر بكل أهوائه حتى في أصعب أوقاته يمثل لهم السوار الأزرق الذي يلف مدينة يبلغ عدد قاطنيها ما يقرب من 20 ألف نسمة، كالحامي لها من كل الهجمات.
وكحال السوريين جميعاً استنزفت الهجرة والسفر، معظم الشباب الذين اعتادوا على تلك الحال، بفعل تنقلهم وترحالهم بين سواحل العالم قاطبة، وما يميز أرواد عدا عن كونها ملاذاً آمناً عبر الأزمنة والعهود في أوقات الحرب والحصار، يبرعون بصناعة السفن الخشبية ويحافظون على تلك الحرفة المتوارثة لأجيال متلاحقة مثلها مثل كافة الحرف التقليدية،
ومع أن أرواد نجت وحدها في سورية من المأساة السورية، ولم تتلطخ بها، لكن طاولتها العقوبات الأميركية والأوروبية، والحصار بشدة، فمعها يعيش السكان حياة قاسية، وتدنى إزاء ذلك إنتاج السفن الصغيرة إلى نسب قليلة، مع مشقة تأمين قطع التبديل، والمواد اللازمة للصناعة، أو حتى مواد المحروقات لتشغيلها، علاوة عن عدم توفر منشآت صناعية أو تجارية يعمل بها أفراد الجزيرة الذين يعتمدون بالأساس على صناعة السفن، والصيد، حيث ينخفض عدد صانعي السفن من 30 إلى ما دون ذلك.
ان جودة ومتانة القوارب المشغولة بأيدي الأرواديين جعلت الجزيرة قبلة لطالبي هذه المراكب الصغيرة، أو حتى السفن المتوسطة ويتفاخر صناع المراكب: “لا يمكن أن نغفل قبل الحرب ما صنعه الأرواديون من سفينة أطلق عليها (الفينيقية)، وهي حالياً لدى بريطانيا مصنوعة بالكامل من الخشب ولا تحتوي على أية قطعة حديد، إنه مركب شراعي جال العالم بأكمله”.
تحدّ أرواد أمواج البحر العاتية من جهاتها الأربع، وتعيش كالمعتاد بكل هدوء، لكن يعاني أهلها حصاراً يطبق على أرجاء جزيرة تتوقف معها الحياة مع توقف العمل، فلا مازوت، ولا وقود يشغل آلياتهم في صناعة المراكب أو الصيد، وإن وُجدت فهي بنسب قليلة ونادرة، وتتقطع معها السبل بالحصول عليها، بينما أملهم الوحيد بصديقهم القديم البحر وما يحمله معه من خير وعطاء لا ينضب.
Beta feature
Beta feature
Beta feature