جزيرة أرواد.. مملكة فينيقية على الساحل السوري

جزيرة أرواد.. مملكة فينيقية على الساحل السوري

جزيرة أرواد.. مملكة فينيقية على الساحل السوري

.
مقابل مدينة طرطوس، وعلى مسافة لا تتجاوز ثلاثة كيلومترات، تتربّع جزيرة قديمة قدمَ التاريخ، في وسط البحر. هي جزيرة سورية تتمتّع بتاريخ عريق وموقع متميّز وفريد. إنها جزيرة أرواد، أو «أرادوس»، الجزيرة الوحيدة المأهولة بالسكان منذ أيام الفينيقيين، قبالة البرّ السوري وعلى مسافة 4150 م جنوب غرب مدينة طرطوس، وعلى مسافة 2450م عن خط الساحل السوري، وتقع عند تقاطع خط العرض 34 درجة و51 دقيقة و20 ثانية شمالاً، وخط الطول 35 درجة و51 دقيقة و26 ثانية شرقاً. وللجزيرة شكل قريب الشبه بنصف دائرة غير منتظمة قطرها في الشرق وقوسها في الغرب وتمتد على محور شمالي غربي، جنوبي شرقي. طول الجزيرة نحو 750م وعرضها بحدود 450م، مساحتها 200,6 هكتار وارتفاع أرضها لا يزيد على 14م، في حين يصل رأس مئذنة المشعال إِلى أكثر من 40م فوق سطح البحر.

الموقع

جزيرة أرواد.. مملكة فينيقية على الساحل السوري
جزيرة أرواد.. مملكة فينيقية على الساحل السوري
تقع جزيرة أرواد أمام السواحل الشرقية للبحر الأبيض المتوسط، قبالة البرّ السوري جنوب غرب مدينة طرطوس.
ورد اسم أرواد أو أرادوس في رسائل تلّ العمارنة، وفي حوليات ملوك آشور، وفي نصوص أوغاريت… وجميع هذه الكتابات تتحدّث عن أهمية أرواد التاريخية والاقتصادية والملاحية، وعن أنها من أهمّ المدن الفينيقية.
تتميّز الجزيرة بممرّاتها وشوارعها المتعرّجة، وقلعتها الصليبية، وقلعتها الإسلامية، والبرج الأيوبي، وبقايا سورها الضخم ومساكنها المتراصّة.
تشتهر أرواد منذ القدم بصناعة السفن، التي ما زالت قائمة إلى اليوم. وكانت قديماً تملك أسطولاً بحرياً قوّياً. حارب الأرواديون ضدّ الاغريق اليونانيين، ووقعت بينهم معركة بحرية هي معركة «سالاميس».

تتألف صخور الجزيرة من توضعات طينية حديثة تعود للحقب الجيولوجي الرابع تغطي صخوراً رملية تعرف بـ «حجر الرملة» من العصر البليوسيني من الحقب الثالث، تليها طبقات من صخور المارن والغضار والكلس من العصر الكريتاسي من الحقب الثاني. وتظهر صخور الرملة وما يليها على سواحل الجزيرة وخاصة الغربية منها حيث ترسم شرفاتٍ وجروفاً ساحلية كوَّنها الحت البحري. وتكثر الحفر والتجاويف على امتداد السواحل الصخرية, كما يظهر النحر الساحلي وعتبة الحت البحرية في أجزاء كثيرة من الساحل الغربي المعرض لضربات الأمواج المباشرة. أما الجانب الشمالي الشرقي من الجزيرة فأكثر تعرجاً وغنى بالرمال, تظهر فيه ثلاثة رؤوس صغيرة, اثنان منها عند النهايتين الشمالية والجنوبية للساحل الشرقي قام الإِنسان بتمديدهما بلسانين مبنيين بحجارة ضخمة أبعادها 3×5×2م, يحتضنان مرفأ أرواد.

ولقد تم تحسين هذا المرفأ وتوسيعه عام 1966 ببناء مكسر رئيس في الشمال والشمال الشرقي طوله 575م متصل بالرأس الشمالي, ومكسر ثانوي طوله 132م متصل بالرأس الجنوبي (القبلي). ويقسم رأس الفدوة, البارز في منتصف الساحل الشمالي الشرقي, المرفأ إِلى حوض (الشمالية) وحوض (القبلية), إِضافة إِلى رصيفين صغيرين أقيما في هذين الحوضين. وتتبع الجزيرة صخرة صغيرة في شمال غربها تكاد تلتصق بالساحل تعرف باسم «بنت أرواد». أما تسمية «بنات أرواد» فتطلق على الجزر الصخرية الصغيرة الواقعة جنوب أرواد على امتداد محور طولي (شمالي – جنوبي) على مسافة نحو 15كم, وهي «جزر الحبيس» و «أبو علي» و«موشارة» (أوميشرون) و«الجورة» و«تبة الحمام». وتعرف الجزر الثلاث الأخيرة بجزر المخروط لتجمعها على شكل مخروط. وبنات أرواد صخرات غير مسكونة تطغى مياه البحر على معظمها في حالات المد والأمواج العالية باستثناء جزيرة الحبيس التي ترتفع مقدار 5-6م فوق سطح البحر. وتذكر المصادر التاريخية أن تسمية «بنات أرواد» كانت تطلق على المدن الساحلية التابعة لمملكة أرواد الفينيقية أمثال عمريت وجبلة وعرب الملك جركس وبانياس وتل الغمقة وغيرها.

ومناخ أرواد متوسطي بحري أمطاره شتوية وخريفية وربيعية, متوسطها السنوي بحدود 800م. تراوح حرارتها بين 27 و7 درجات ويندر أن تتدنى إِلى الصفر. ورطوبتها عالية تصل إِلى أكثر من 90٪ في الصيف وتحوم حول 60٪ شتاءً. وتتعدد الجهات التي تهب منها الرياح ولكل منها تسمية محلية : فـ «الملتم» ريح تهب من الجنوب الغربي و«الشلوق» من الجنوب الشرقي و«التحتاني» من الشمال, وغير ذلك من تسميات مرتبطة بالملاحة. وللأرواديين خبرة بأحوال الجو والتنبؤ بها. ويسبب الضباب الربيعي المسمى «سريدا» حجب الرؤية فتتوقف حركة المراكب.

[مرفأ أرواد

وتنعدم المياه العذبة السطحية والينابيع في الجزيرة, فيغدو اعتماد سكانها على مياه الأمطار التي كانوا يجمعونها في حفر وخزانات وعلى المياه العذبة المنبجسة من قاع البحر على شكل ينابيع تعرف باسم «الفوارات» في منتصف المسافة تقريباً بين أرواد وطرطوس, حيث كان الماء يؤخذ منها بوساطة قمع من الرصاص شبيه بالجرس متصل بأنبوب جلدي. وتعد هذه الفوارات أقدم ينابيع بحرية عرفها الإِنسان واستعمل تقنية (القمع المقلوب) في استغلالها. ويشرب الأرواديون منذ عام 1953 من مياه بئر حديثة حفرت في الجزيرة, دعمت ببئر أخرى ثم ثالثة في منتصف السبعينات, إِضافة إِلى انتشار آبار خاصة في الدور إِلى جانب برك وأحواض جمع مياه المطر. ويعد وصول مياه نبع السن على الساحل السوري إِلى دور أرواد نهاية أزمة مياه الشرب للأرواديين.

التسمية

تسمّى «آراد» أو «آرفاد»، باللغة الفينيقية، وتعني الملجأ أو الملاذ. و«أرادوس» باليونانية. وهناك عدّة أماكن تحمل التسمية نفسها أمام الساحل الفلسطيني، وفي الخليج العربي، وقرب جزيرة كريت اليونانية، لكن الدلائل تشير إلى أنّ مؤسّسي هذه الأماكن كانوا من الفينيقيين.
يبلغ طول هذه الجزيرة بحدود 800 متر، وعرضها حوالى 500 متر، أي أنّ مساحتها تبلغ تقريباً 400 ألف متر مربّع. المسكون منها 50 في المئة. وقد وصفها العالم استرابون بأنها مدينة مهمّة تشغل مساحة من اليابسة وصخرة يلطمها البحر من كلّ جهة حتى يكاد يغمرها.
تضم أرواد في رحابها الكثير من المعالم الأثرية والأوابد التاريخية منها: البرج العربي الأيوبي، ويسمّى بالقلعة الساحلية، وهناك السور الفينيقي وهو سور حجريّ ضخم يحيط بالجزيرة من جميع جهاتها كإحاطة السوار بالمعصم، وتمّ بناؤه لحماية المدينة من خطر العواصف البحرية ولصدّ الغزوات التي كانت تواجهها.

تاريخ أرواد

قلعة ارواد
قلعة ارواد
لقد تعرضت أرواد للغزو مرّات عدّة خلال تاريخها الطويل، ومع ذلك حافظ السكان على أصالتهم لعشرات القرون. ولأبناء أرواد شهرة واسعة في العمل البحري وهم مفضّلون لمهارتهم وصبرهم. وقد مرّت الجزيرة بحالات مختلفة في تاريخها الطويل منذ القرن الخامس عشر قبل الميلاد حتى اليوم، وأجلي سكانها عنها قرابة سنة خلال الحرب العالمية الأولى وقصفها الألمان عام 1917، لتحوّلها إلى قاعدة فرنسية منذ أيلول 1915.
لقد كانت أرواد مدينة مزدهرة منذ الألف الثاني قبل الميلاد، ثم وقعت تحت نفوذ صور، إلا أنها استقلّت عنها وأخذت تنمو وتزدهر وتمتدّ لتؤسّس مستعمرات وتنشئ مدناً على الشاطئ لضرورات اقتصادية ودينية ودفاعية، وسمّيت هذه المستعمرات أيضاً «بنات أرواد». وقد توغل الأرواديون في الداخل فأقاموا معابد وقلاعاً كهيكل «بيتوخيخي»، و«سيجون»، وساهموا في تأسيس مدينة طروادة. وأشهر بنات طروادة أنترادوس وهي طرطوس الحالية وعمريت.
عندما أغارت شعوب البحر على أوغاريت، كانت أرواد أوفر حظاً، إذ نجت من الغزو، وأصبحت من أبرز المدن الساحلية إلا أنها خضعت للملك الآشوري تغلات بلاصر الأول ثم آشور ناصربال. غير أن الأرواديين استردّوا معنوياتهم واتّحدوا مع ملوك سورية الآراميين عام 854 قبل الميلاد ليحاربوا جيش شلمانصر الثالث الذي تمكّن في ما بعد من فرض الغرامات على أرواد.
في عام 539 قبل الميلاد، أصبحت أرواد جزءاً من الإمبراطورية الأخمينية الفارسية وغدت الولاية الخامسة، وسمح لها بممارسة الحكم الذاتي ودفعت بأسطولها إلى جانب الفرس في حربهم ضدّ الأثينيين في معركة «سلاميس» عام 480 قبل الميلاد.
وقد غزا الاسكندر المقدوني البلاد عام 333 قبل الميلاد. وقدّم ابن ملك أرواد الخضوع والطاعة أمام الاسكندر. واللافت أن الاسكندر لم يشأ إثارة حساسية أهل أرواد وشعورهم، ولم يدخل الجزيرة على رغم وجوده في ماراتوس عمريت القريبة منها.
كان لأرواد شأن مهمّ في النزاع بين البطالمة والسلوقيين، لذا، منحها أنطيوخوس الثاني استقلالها ليضمن مساعدة بحريتها، وتمتّعت وقتذاك بامتيازات المدينة الحرّة. واعتبر العام 259 قبل الميلاد نقطة بدء التأريخ لديها. وتدخّل الأرواديون في نزاع السلوقيين بين بعضهم حيث وقفوا إلى جانب سلوقس الثاني، واضطر أنطيوخيوس الرابع إلى إخضاعهم بعد مقاومة، ثم تحالف معهم. وأعاد أنطيوخيوس السابع إلى أرواد حرّيتها ليكسب مساعدتها، وبصورة عامة كان لأرواد نفوذ عظيم على طول سواحل سورية.
بعد ذلك، احتل الرومان سورية بقيادة القائد الروماني بومبيوس، إلا أن أرواد حافظت على استقلالها النسبيّ، وأيّدت القائد الروماني بومبيوس عند خلافه مع قيصر، واستخفّت بعملاء أنطونيوس ورفضت دفع الجزية. إلا أن المجاعة التي نتجت عن الحصار دفعتها إلى الاستسلام. واحتفظت أرواد في تلك الآونة بمؤسّساتها الهيلنستية، وكانت الوحيدة التي حافظت على حرّيتها. إلا أنها أخذت تخبو وتضعف، وبدأ نجم المدينة المقابلة أنترادوس طرطوس بالتألق لتأخذ مكانها.
لم تدخل أرواد بحوزة العرب المسلمين مع سورية، بل بقيت قاعدة بحرية رومية إلى أن قرّر معاوية بن أبي سفيان فتحها وتم له ذلك. لكن الجزيرة أعيد استخدامها كقاعدة بحرية لأساطيل الدول الإيطالية في حقبة الغزو الافرنجي، واستقرّ فيها فرسان الهيكل فزادوا من تحصينها، وأصبحت الجزيرة المركز الرئيس ليعقوب الطرطوسي للإغارة على الساحل بين وقت وآخر. بعد ذلك، تناوب على أرواد المماليك، ثم أهملت وأتى العثمانيون وحسّنوا في قلعتها زمن السلطان سليمان القانوني، وشيّد فيها حصنان صغيران.
وفي الحرب العالمية الأولى، نزلت فيها البحرية الفرنسية وأخضعتها لفرنسا عام 1915، حيث أصبحت تمهر فيها المعاملات بخاتم حكومة أرواد، قبل أن يتم ضمّها إلى سورية بعد معاهدة «سايكس ـ بيكو»، وقد جعلت فرنسا قلعتها معتقلاً للأحرار والرجالات الوطنيين إبان فترة الاحتلال الفرنسي الذي انتهى عام 1946.

السكان

سكان أرواد من قدماء أبناء سواحل بلاد الشام وحَفَدة الفينيقيين الذين اعتنقوا  المسيحية الرومية  ثم بدأ اعتناقهم الإِسلام بعد دخول المسلمين اليها تدريجيا ويعتقد أنهم في الأصل البعيد من مدينة صيدا. وقد تعرضت أرواد للغزو والاحتلال أكثر من مرة في تاريخها الطويل, ومع ذلك حافظ السكان على بقائهم وأصالتهم منذ عشرات القرون. ويتألف السكان من أسر صغيرة تربط بعضها ببعض روابط النسب والقرابة البعيدة عن العلاقات القبلية السائدة في معظم قرى البر الشامي. ويتكلم السكان اللغة العربية بلهجة ساحلية مميزة ويدينون بالإِسلام. وتعد الهجرة أهم ظاهرة ديموغرافية في الجزيرة, إِذ يبلغ عدد الأرواديين خارج بلدهم أضعاف المقيمين فيها. ويعيش معظمهم في مدن الساحل السوري حيث يتوافر العمل في المهن البحرية وتوابعها في طرطوس وبانياس واللاذقية. وتعمل أعداد مهمة منهم في أنحاء متفرقة من العالم ولاسيما في الموانئ الكبرى وشركات الملاحة العالمية. ولأبناء أرواد شهرة واسعة في العمل البحري وهم مفضلون لمهارتهم وصبرهم وأمانتهم. ولقد مر إِعمار أرواد بحالات مد وجزر في تاريخها الطويل منذ القرن الخامس عشر ق.م حتى اليوم, وأُجلي سكانها عنها قرابة عام في أثناء الحرب العالمية الأولى وقصفها الألمان عام 1917, لتحولها إِلى قاعدة فرنسية منذ الأول من أيلول 1915.

واقعها

أرواد المعاصرة ناحية تابعة لطرطوس عدد سكانها 5016 نسمة بحسب تعداد السكان لعام 1994, لكن واقع المسجلين من أبنائها يزيد عددهم على 11,500 نسمة يعمل معظمهم خارجها.

تتوسط السوق الرئيسة الجزيرة حيث الحوانيت وبائعو الخضر والفواكه والمخابز الثلاثة. وهناك عدد من المطاعم والمقاهي على الأطراف الشرقية والجنوبية للجزيرة. أما المقبرة ففي الجنوب الغربي. وتنتشر المساكن على باقي أرض الجزيرة متراصة متلاصقة, وحاراتها ضيقة متعرجة لمرور المشاة فقط ولا يوجد في الجزيرة سيارات أو عربات. وأرض الحارات مرصوف أكثرها بالإِسمنت وأقلها بالحجارة. ومعظم الدور مؤلف من طبقتين ومع تزايد أعداد السكان أخذ عدد الطبقات بالازدياد حتى أربع. ومادة البناء كانت الحجر الرملي فأصبحت الإِسمنت المسلح, وسقوف المنازل مستوية مع انحدار بسيط. وتقسم أرواد إِلى حارتين رئيستين هما القبلية والشمالية, يفصل بينهما السوق. وهناك حارات أصغر كحارة السوق وحارة شيخ شرف الدين وحارة الفوق وغيرها.

وفي أرواد الكثير من المعالم الأثرية أهمها المرفأ والسور والقلعة والبرج, وقد كشفت الدراسات الأثرية آثاراً وأطلالاً مغمورة بمياه البحر التي ارتفع مستواها منذ أواخر العصر الحجري الحديث حتى اليوم عندما ساد مناخ دافئ وازداد حجم مياه البحار والمحيطات.

مصادر الرزق

صناعة السفن
صناعة السفن

أرواد جزيرة بحرية عماد حياة سكانها صيد السمك والإِسفنج والعمل البحري وتوابعه, فأهلها بحارة وصيادون بالدرجة الأولى. ويتم الصيد بمراكب صغيرة تعرف بـ «الفلوكة» أو «اللنش» محلياً, مصنوعة من الخشب تسيرها محركات. ويستخدم الصيادون الشباك والشصوص (الشرك محلياً) ويكون الصيد ليلاً. وأهم أنواع الأسماك السلطان إِبراهيم والفريدي والرملي وهو أجودها, يليها السردين والبلميد (الطون) والسرغوس. ويباع المحصول اليومي في (ساحة السمك) في طرطوس.

ويستخرج الأرواديون الإِسفنج من عمق يُراوح بين 20-50م ومن أنواعه: الحقيقي المخزني والحقيقي الناعم والإِرسينية. وفي أرواد مشاغل وحيازات لصنع القوارب والمراكب وصيانة محركاتها, وتصدر مراكبها إِلى الموانئ السورية واللبنانية وإِلى ليبية والأردن أحياناً. وهناك بعض الأعمال التجارية التي يمارسها السكان في الجزيرة نفسها, أو مع البر السوري ولا سيما في مدينة طرطوس. وللوظيفة السياحية أهمية متزايدة بارتفاع أعداد زوارها من البر السوري يوماً بعد يوم, يدفعهم إِليها أن أرواد الجزيرة الوحيدة المأهولة على الساحل السوري كله. ولقد رافق ذلك قيام بعض الصناعات السياحية من الخشب والصدف وهي آخذة بالازدهار.

ارواد في عهد الفرنجة

ولكن جزيرة أرواد استخدمت قاعدة بحرية لأساطيل الدول الإِيطالية ( بولونيا وجنوة) في حقبة الغزو الفرنجي وأخذت تدعم وتساند  فرنجة تولوز  في عمليات الهجوم على  طرطوس واستقر فيها  فرسان الهيكل (المعبد) فزادوا في تحصينها, ولاسيما بعد أن خرج الفرنجة من السواحل أصبحت المركز الرئيس  ليعقوب الطرطوسي  للإِغارة على الساحل بين وقت وآخر إِلى أن دخلها  بعد معارك شرسة قائد الأسطول سف الدين المنصوري مع قواته  في أيام الملك الناصر محمد بن قلاوون عام 702هـ – 1302 م ودُمرت أسوارها في هذا الصراع.

طابع بريد من أرواد، أثناء الانتداب الفرنسي.

تناوب على أرواد المماليك ثم أهملت وقل شأنها وألحقت إِدارياً بنيابة طرابلس. وأتى العثمانيون وحسنوا في قلعتها زمن السلطان سليمان القانوني، وشُيّد فيها حصنان صغيران في إِثر غارات القراصنة اليونان ونُقل إِليها السكان من قلعتي صلاح الدين والمرقب وخصصت لهم رواتب ووقعت بينهم وبين القراصنة مناوشات أسفرت عن فوز حُماة الجزيرة، وأسر بعض القراصنة وتعلم الأرواديون منهم فنونهم في الملاحة ثم تغلبوا عليهم.

وقد نزلت البحرية الفرنسية في أرواد في الحرب العالمية الاولى بقيادة  القومندان ترابو بعد مفاوضات مع وجهاء المدينة وتمكن من إِخضاع هذه الجزيرة للاحتلال الفرنسي سنة 1915 قبل إِبرام معاهدة سايكس – بيكو  وأصبحت كل معاملاتها تمهر بخاتم حكومة أرواد وأصدرت طوابع وجوازات سفر وبطاقات شخصية، إِلى أن ضُمت إِلى سورية بعد المعاهدة المذكورة. وأسهمت أرواد إِسهاماً فعالاً في تقديم المساعدة إِلى سكان  جبل لبنان  ضد السفاح التركي جمال باشا ونُقل قسم من أهلها إِلى  قبرص ثم جعلت فرنسة من قلعتها، في مرحلة انتدابها على سورية، معتقلاً للأحرار والرجالات الوطنيين, وقد أسهمت أرواد في مقاومة الاحتلال الفرنسي حتى الجلاء (1946).

اكتشافات أثرية

كانت جزيرة أرواد مسكونة منذ زمن بعيد، لكن استمرار السكن على هذه المساحة الضيّقة لم يسمح بالعثور على دلائل هذا الماضي البعيد، لأن أرضها صخرية ومن دون طبقات، كما أن أبنيتها مكتظة تعيق أيّ عملية تنقيب، وقد وجدت شواهد على الاستيطان الإنساني على اليابسة تعود إلى العصرين الحجري الحديث النيوليتيك والمتوسط الميزوليتيك .
وقد كشفت التنقيبات في الجزيرة آثاراً معمارية ومادية وكتابات منقوشة بلغ عددها 22 نصّاً حتى عام 1983. وأوّل من استطلع هذه الآثار إرنست رينان في أثناء رحلته إلى سورية عام 1860 واقتصرت دراسته على جدران السور والمنازل ومفارق الطرق، والمخطوطات، والأدوات الجنائزية، وقواعد التماثيل، وبعض الألواح الخشبية التي تظهر امتزاج العناصر المصرية والآشورية والفارسية وانطباعها بالحسّ اليوناني، حيث تدلّ على أنّ الفنّ الإغريقي تطوّر في أرواد تطوّراً يفوق أيّ مكان آخر على الساحل السوري.

شظية من نصب من القرن الرابع ق.م.، عُثر عليها في أرواد. متحف اللوڤر.
شظية من نصب من القرن الرابع ق.م.، عُثر عليها في أرواد. متحف اللوڤر.
كما قامت الباحثة أونور فروست بأعمال دراسة أثرية تحت الماء نشرت نتائجها في بحث عن صخور أرواد البحرية ومراسيها القديمة الأثرية. وقام الآثاريون السوريون باستطلاعات مهمة في أرواد وتم استخراج قطعة حجرية عليها كتابة يونانية من العصر الروماني مؤلّفة من 11 سطراً نقلت إلى الفرنسية ثم ترجمت إلى العربية، كما تم كشف حجر أسود بازلتي عام 1983 إلى جانبه حجر رخاميّ نُقشت عليه خمسة سطور يونانية ويعود إلى أيام الإمبراطور تيبريوس.
ومن الجدير بالذكر، أنّ القديس بولس وصل إلى أرواد وهو في طريقه إلى روما وأعجب بتماثيلها وبشّر سكانها بالدين المسيحي.

رحلة من اليابسة إلى اليابسة

وعلى حافة رصيف بمرفأ طرطوس، المدينة الساحلية المطلة بوداعة قبالة المتوسط، تصطف قوارب خشبية مخصصة لنقل الركاب وِجهتها جزيرة ارواد

وتبقى “جزيرة أرواد” التي تقع في السواحل الشمالية، وتبلغ مساحتها 20 هكتاراً، الأرض السورية الوحيدة التي عاشت أعوامها الماضية بسكينة وسلام داخلي بعيداً عما شهدته البلاد من حروب ومعارك طاحنة على مدار عقد من الزمن، وكانت بمنأى عن نيران الفرقة والفتن، وما زال يخالج سكانها حسرة لحال ما ألمّ ببلادهم، وإن كان حاجز البحر الوحيد ما يفرق بين اليابستين.

بهذه المراكب الخشبية يتوافد الركاب من قاطني أرواد أفواجاً بأوقات معروفة مسبقاً، فلا وسيلة سوى القوارب بمحركات الدفع الآلية قادرة على أن تقلهم إلى مخادعهم، أو ممن يقصد أرواد للزيارة السياحية، ودونها ليس على الأرواديين إلا المبيت في مدينة طرطوس، والسفر في اليوم التالي.

بحارة بالفطرة

الطريق إلى أرواد في وقت الظهيرة صيفاً سيمنح الزائر مع مدة الانتقال فيضاً من المتعة ممزوجة بتشويق المغامرة، لا سيما ما يحيط أرجاء القارب من مياه أشبه بكميات من اللؤلؤ البراق بفعل أشعة الشمس التي أهدت خيوطها للبحر سالبةً منه زرقته، ومنحته كثيراً من الدفء.

أهالي الجزيرة الغارقة بالتاريخ (أرادوس) باليونانية كانت في زمن سابق، مملكة لـ”الفينيقيين”، وكما هو معروف فإن الفينيقيين استوطنوا بلاد الشام في الألفية الأولى قبل الميلاد، وتمتد جغرافيتهم باسم فينيقيا على طول الساحل الشرقي للبحر الأبيض المتوسط والمناطق المجاورة لها مع جبال الكرمل كحدود طبيعية.

المدينة الغافية وسط المتوسط 

وتغمرك مع أول إطلالة من أعلى نقطة بقلعة الجزيرة الهدوء والسكينة، وحده هدير الأمواج الوافد إلى اليابسة من يقضّ مضجع الصمت المسيطر على المكان، لا أبواق سيارات ولا تلوث بالهواء في حين يطغى اللون الأبيض المطلي بجدران البيوت السكنية وتتوحد في ما بينها بالشكل والتصميم حتى يتخلل اللون الأزرق أبواب ونوافذ المدينة.

وحده الضجيج العابر ما يسري في مدينة الصمت ليس سوى ما يصدر من نداءات متقطعة لأطفال يلعبون، بينما يفضل الباعة الصمت في أسواق المدينة المتواضعة بالحاجات والسلع الغذائية والاستهلاكية، أو حتى في أزقة الجزيرة الضيقة، في وقت ينكب فيه حرفيون يحولون أصداف البحر إلى تحف فنية ثمينة تصلح كهدايا تذكارية يقتنيها السياح الذين انخفض عددهم بشكل كبير في الفترة المؤلمة التي عاشتها وتعيشها سورية.

وتنتشر المقاهي القديمة على طول الكورنيش المواجه للبحر بكثافة، يتوزع بداخلها على طاولاتها ومقاعدها الخشبية ثلة من البحارة والصيادين، أو صانعي السفن في فصل الشتاء، هنا يحتسون الشاي، ويتبادلون أحاديث شيقة عن حياة البحر والمعيشة.

وعلى شاطئ الجزيرة تزدحم قوارب صيادي الأسماك، ومعها يعمل من دون توقف مصلحوا شِباك الصيد، عبدالله بلقيس، بصحبة صيادين منهم تقاعد عن العمل،

والارواديون يقولون بفخر: “صنعت أرواد السفن الخشبية، وما زالت هي المدينة الوحيدة التي تصدر للدول هذا النوع من المراكب”.

السفن صناعة الآباء والأجداد 

ظلت الجزيرة الشهيرة بصناعة السفن الخشبية منذ القدم ملاذهم الوحيد، فالبحر بكل أهوائه حتى في أصعب أوقاته يمثل لهم السوار الأزرق الذي يلف مدينة يبلغ عدد قاطنيها ما يقرب من 20 ألف نسمة، كالحامي لها من كل الهجمات.

وكحال السوريين جميعاً استنزفت الهجرة والسفر، معظم الشباب الذين اعتادوا على تلك الحال، بفعل تنقلهم وترحالهم بين سواحل العالم قاطبة، وما يميز أرواد عدا عن كونها ملاذاً آمناً عبر الأزمنة والعهود في أوقات الحرب والحصار، يبرعون بصناعة السفن الخشبية ويحافظون على تلك الحرفة المتوارثة لأجيال متلاحقة مثلها مثل كافة الحرف التقليدية،

ومع أن أرواد نجت  وحدها في سورية من المأساة السورية، ولم تتلطخ بها، لكن طاولتها العقوبات الأميركية والأوروبية، والحصار بشدة، فمعها يعيش السكان حياة قاسية، وتدنى إزاء ذلك إنتاج السفن الصغيرة إلى نسب قليلة، مع مشقة تأمين قطع التبديل، والمواد اللازمة للصناعة، أو حتى مواد المحروقات لتشغيلها، علاوة عن عدم توفر منشآت صناعية أو تجارية يعمل بها أفراد الجزيرة الذين يعتمدون بالأساس على صناعة السفن، والصيد، حيث ينخفض عدد صانعي السفن من 30 إلى ما دون ذلك.

ان جودة ومتانة القوارب المشغولة بأيدي الأرواديين جعلت الجزيرة قبلة لطالبي هذه المراكب الصغيرة، أو حتى السفن المتوسطة  ويتفاخر  صناع المراكب: “لا يمكن أن نغفل قبل الحرب ما صنعه الأرواديون من سفينة أطلق عليها (الفينيقية)، وهي حالياً لدى بريطانيا مصنوعة بالكامل من الخشب ولا تحتوي على أية قطعة حديد، إنه مركب شراعي جال العالم بأكمله”.

تحدّ أرواد أمواج البحر العاتية من جهاتها الأربع، وتعيش كالمعتاد بكل هدوء، لكن يعاني أهلها حصاراً يطبق على أرجاء جزيرة تتوقف معها الحياة مع توقف العمل، فلا مازوت، ولا وقود يشغل آلياتهم في صناعة المراكب أو الصيد، وإن وُجدت فهي بنسب قليلة ونادرة، وتتقطع معها السبل بالحصول عليها، بينما أملهم الوحيد بصديقهم القديم البحر وما يحمله معه من خير وعطاء لا ينضب.

 

  • Beta

Beta feature

  • Beta

Beta feature

  • Beta

Beta feature

Comments

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *