حرق الجثامين مسيحياً بعد الموت

حرق الجثامين مسيحياً بعد الموت

حرق الجثامين مسيحياً بعد الموت

حرق الجثامين مسيحياً بعد الموت

عادة حرق الجثامين بعد الموت، هي عادة موجودة في الدول الغربية ولكنها تبدو غريبة على الفكر والتقليد المسيحيين، فهل تتعارض هذه العادة مع المسيحية بصورة او بأخرى؟

لو راجعنا الشرع الكنسي لما وجدنا كلمة واحدة في شأن حرق الأجساد. هناك بعض المواقف الكنسية الصريحة لكنّها منذ زمن قريب. ومع ذلك لم يتعاط المسيحيّون حرق الأجساد، حتى منذ القرن المسيحي الأول.

توطئة

تعود فكرة الدفن وفق المرويات الى فجر الخليقة إلى أول جريمة بشرية ارتكبها قايين بقتل اخيه هابيل، لأن الله قبل تقدمة هابيل وكانت تقدمة تليق بالله، ولم يقبل تقدمة قايين لانها لاتليق بالله، فحقد قايين على اخيه هابيل وقتله…

ولكن كيف يتخلص من جثمان هابيل؟ هل يتركه على الارض ليراه ابوه؟

ولقد قضى التدبير الالهي ان يعرض لقايين ان غراباً قتل غراباً آخر، وقام بحفر الارض ودفنه وأهال عليه التراب، عندها فعل قايين كما فعل الغراب ودفن اخيه المغدور هابيل وأخفى معها جريمته.

اذن منذ السنوات الأولى للخليقة، وقد نشأت معها الديانات المختلفة، واختلفت بالتالي المعتقدات، وسيطرت فكرة الموت على عقل الانسان وشغلت باله كثيراً وكان السؤال المحير للكهان ومراقبي الافلاك:” ماهي هذه الظاهرة التي يسكن معها جسد الانسان عن الحراك؟ وبالتالي ماهيتها؟

منهم من اعتبرها نهاية حياة، ومنهم من اعتبرها بداية حياة، وعجز الانسان المفكر، ولايزال عن تبرير الموت، وخاصة عند افلاسفة ولاتزال طروحاتهم لاتتعدى مفهوم النظرية التي لاثبت علمي لها، وخاصة عندما يموت الانسان طفلاً أو مريضاً أو حتى الموت ولو بعد حياة طويلة، والكل يسأل انه طالما في النتيجة هناك موت، فلم يولد الانسان صغيراً ويكبر ثم يموت؟

ومنهم، اي من الناظرين إلى تبرير الموت، سواء كانوا من الاقدمين أوالحاضرين من اعتبرها طريقة لتقمص الروح البشرية في جسد آخر، أي أن روح الراقد فارقت جسده لتنتقل إلى جسد آخر، قد يكون من الماضي او الحاضر في مكان آخرأو… لهذا دخلت طرق دفن مختلفة مما أدى إلى أسئلة كثيرة حول الدفن بين تشريع الدفن في التراب وتحريم الحرق.

حرق الجثامين قديماً

لم يعرف المصريون القدماء ولا الفينيقيون عرفوا إلاّ أنّه كان الحرق يتم لدى الشعوب البدائية ولدى الكنعانيين قبل العام ألفين وخمسمائة قبل الميلاد. لدى الإغريق والرومان تفاوتت الممارسات، وفقاً للمعتقدات الدينية. الذين آمنوا باستمرار الحياة بعد الموت كانوا يدفنون موتاهم، فيما الذين آمنوا بالحياة الظلّية بعد الموت اعتمدوا حرق الأجساد.

عند الرومان كانت العادة معروفة. ويبدو أنّها أخذت تشيع في زمن الجمهورية. أول مَن أمر بأن يُحرق جسده كان الأمبراطور “سولا” وتبعه العديد من الأباطرة حتى أضحت العادة مألوفة. في حوالي مطلع القرن 5م وقد اختفت عادة حرق الأجساد في العالم الروماني، لكنّها استمرّت عدّة قرون، بعد ذلك، في أوربة الشمالية، وبقيت في البلاد الإسكندنافية، إلى القرن الثالث عشر.

كانت هذه العادة متبعة في دول جنوب وجنوب شرق آسية كالصين والهند… حيث لاتنتشر الأديان السماوية كاليهودية والمسيحية والاسلام كأديان تحظى بالسيادة اجتماعياً وفي الدول هذه وان وجدت فلا تأثير لها الا على اتباعها في قضية دفن الأموات، اما الغالبية من الاديان البوذية والهندوسية… فتأثيرها طاغ في هذه المجتمعات منذ القديم جداً وماقبل الميلاد، وتعاملت بعادة حرق الجثامين.

وكانت عادة حرق جثامين الأموات الوثنية شائعة في القديم ايضاً في بلاد الاغريق وفي القبائل الجرمانية والسلافية والروسية قبل مسيحيتها، كما كانت في مصر الفرعونية وفي مجاهل افريقيا، وكانت بعض القبائل تأكل جثث امواتها لتحل مواهبهم على القبيلة.

ولقد انتشرت عادة حرق الجثث في اوربة مع انطلاقة الثورة الفرنسية (ايطاليا ، والمانيا، وفرنسا…) وفي بعض الدول الآسيوية (كاليابان بسبب ضيق المساحة الجغرافية) علماً ان عادة حرق الجثث دخلت اميركا السنة 1875 وتحديداً مدينة نيويورك.

أسباب الحرق

بالنسبة للزمن الراهن، استعادةُ ممارسة حرق الأجساد كانت، في إيطاليا وفرنسا والبلاد الإسكندنافية منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر. الأسباب تفاوتت. تحدّثوا مثلاً عن أسباب علمية صحيّة. وقد قالوا بأن دفن الجثث في الأرض يفسد التربة، وقالوا انها “تؤثّر في مياه الشرب وتفسد الهواء وتؤثّر في صحّة السكان المقيمين قريباً من المدافن”.

كل هذه الأسباب لم تكن مبرّرة بالقدر الكافي، وثمّة مَن طالب بالاستعاضة عن الدفن بحرق الأجساد من قبيل تحدّي الكنيسة في عقائدها ومؤسّساتها. هذا شاع بخاصة في الأوساط المعادية لها هنا وهناك، لا سيما في أوربة، وفي أعقاب الثورة الفرنسية. بفعل الماسونية.

الماسون، في مواضع مختلفة، كانوا وراء إشاعة عادة حرق الأجساد، قيل بقصد إخفاء معالم الموت، لكون ذلك يتماشى ونظرتهم الحلولية إلى الأرض، وقيل للطعن بالكنيسة ونظرتها. في صربيا مثلاً اندلع جدل سنة 1929 بين الماسون والكنيسة في هذا الشأن.

في البداية كان يتم حرق الموتى في الغرب (كما اسلفنا) لأسباب صحية وفق الاسباب المدعى بها، لكنه لاحقاً اكتسب طابعاً تقليدياً احتفالياً، وصارت هناك أفران خاصة للحرق وصالونات مرافقة لتقبل العزاء.

هذه العادة غير موجودة في بلادنا الشرق اوسطية، هل بسبب ان الاديان السماوية نشأت بها ومنها انتشرت نحو العالم، بمعنى ادق فان المسيحيين كمواطنيهم من مسلمين ويهود يحرمون عادة الحرق ويؤكدون على الدفن وعلى الموروث بأن اكرام الميت بدفنه، والمسيحية تؤكد على ان الانسان خلق من التراب والى التراب يعود، لهذا فالسؤال هنا لايهم مسيحيي المشرق، بل يهم المسيحيين الذين يعيشون في الغرب، والذين يتساءلون عن جواز هذه العادة للمسيحيين عموماً ووفق الكنيسة الارثوذكسية خصوصاً.

طريقة الحرق

تختلف طريقة الحرق من بلد إلى آخر، فلقد مارسها الاغريق منذ العصور القديمة وكذلك الرومان قبل المسيحية وغيرها من القبائل الجرمانية والفايكنغ في شمال اوربة وغربها والقبائل السلافية …قبل تنصرها، وكانوا يعتقدون أن إحراق الجثة يطهّر الروح ويحرّرها من شكلها الأرضي. كما أن الثورة الفرنسية وانقلابها على الكنيسة بفعل الماسونية، وقد سبق ذلك عصر النهضة بمعارضة تعاليم الكنيسة واخلاقياتها المعتادة، و في الاهتمام باستخدام الأرض في المناطق الحضارية، ساعد على احياء الاهتمام بإحراق جثث الموتى في البلدان المسيحية اي العودة الى ماكان يتم قبل اعتناق اوربة المسيحية ، فكانت ثاني محرقة افتتحت في ميلانو سنة 1876
وفي أعقاب الثورة الفرنسية الماسون، في مواضع مختلفة، كانوا وراء إشاعة عادة حرق الأجساد، قيل بقصد إخفاء معالم الموت لكون ذلك يتماشى ونظرتهم الحلولية إلى الأرض وقيل للطعن بالكنيسة ونظرتها.

في صربيا مثلاً اندلع جدل سنة 1929 بين الماسون والكنيسة في هذا الشأن.
في القرون الماضية كانت الشعوب تهتم بأمواتها كثيراً، وقد اتيح لهم أن يختاروا بين الدفن أو حرق الجثة. ففي بعض الدول حول المتوسط كان التقليد الغالب هو دفن الميت لأنهم كانوا يؤمنون بأن النفس الغير المدفونة لا تستطيع الدخول إلى الفرح السماوي.

حرق الجثث في اليهودية قديماً

هذا ويشار، وفق الدارسين من علماء الآثار، إلى أنّ الشعب العبراني، منذ خروج إبراهيم إلى أرض كنعان، في حدود العام الألفين قبل الميلاد، لم يعرف حرق الأجساد بل كان يتعاطى الدفن في التراب كان حرق الموتى يتم عند العبرانيين امتداداً لعقوبة الموت، وكان يُسمح به في مثل هذه الحالات( لاويين20: 14-21) وكان يُعتقد ان الموتى غير المدفونين يبقون هائمين بدون راحة وفي هذه كانت عقوبة الارواح.

حرق الجثث مسيحياً

اعتادت الكنيسة منذ نشأتها تكريم الراقدين بدفنهم، ولم تتبع فيها عادة حرق الجثامين، وقد فعلت الدفن هذا اتباعاً للعادة العبرانية التي كانت تكرم جثمان الميت بدفنه في التراب وفق المثل الشعبي” إكرام الميت في دفنه”.

أما المسيحية الأصلية فقد كانت دائما مع دفن جثة الميت، ولاهوت الكنيسة يربط بين النفس والجسد، ويمنع حرق الجسد.

في ذلك يقول الرسول بولس في الرسالة الأولى إلى ( كورنثوس 3 : 17) ” ان كان أحد يفسد هيكل الله فسيفسده الله.”

ويسوع نفسه بعد صلبه دُفن، وهكذا نحن بعد موتنا، فالانسان من التراب والى التراب يعود(تك:19:3).

ان عادة دفن الراقدين المسيحيين، هي عادة معبرة عن ايمان الكنيسة بأن الجسد نفسه مخلوق على صورة الله، وهو هيكل للروح القدس، ومسكن له منذ معمودية المسيحي ومسحه بالميرون المقدس، واشتراكه بالقربان الالهي، لهذا تكرم الكنيسة رفاة القديسين المسيحيين وذخائرهم. وترتليانوس (160-؟-220) يعطينا شهادة من أبكر الشهادات الكنسية على شجب حرق الموتى فيدعوه “متوحشاً”، إلا انه يرى دفن الموتى”عمل رحمة للموتى”.

النظرة اللاهوتية للانسان
لقد أعطى القديس يوستينيوس التحديد التالي للانسان فقال
” ما الانسان إلا حيوان عاقل مؤلف من نفس وجسد، والانسان لا يدعى لواحده من هذه، أي للجسد أو للنفس، بل من تمازج الاثنين معا، لأن الاتحاد القوي بين النفس والجسد ينمو في كامل الانسان الذي يتكون من نفس وجسد.”
الانسان اقنوم حيث تتحد النفس والجسد بالكامل، وبعد انفصال النفس، لا يبطل الأقنوم.

يمكننا أن نحدد هذه الحقيقة اللاهوتية بإشارتين

الأولى: ان النفس المنفصلة من الجسد تحفظ بداخلها الذكريات.
ثانيا: لا يتحطم الاقنوم نتيجة انفصال النفس عن الجسد. لأن النفس بعد انفصالها عن الجسد تعرف، وتتعرف على اعضاء الجسد. وستدخل إلى جسدها اللا هيولي بقوة وعمل الله، وهكذا تتم قيامة الأموات. الانسان لن يتغير وسيكون بلا فساد أو موت أو تبدد في الجسم القائم.
يقول الرسول بولس (1 كورنثوس 15 : 42 ):” هكذا أيضا قيامة الأموات، نُزرع بالفساد ونقوم بلا فساد، نُزرع في الهوان، ونقوم في المجد، نُزرع في الضعف ونقوم في القوة، نُزرع جسماً حيوانياً ونقوم جسماً روحياً.”

يواجه المسيحي هذه الأيام السؤال الذي يشجعه العالم المتعولم :” هل ينبغي أن نحرق جثة المائت؟

الكتاب المقدس يقول: “ان الجسد مقدس وهو هيكل الله ” بينما العالم يزدري بالجسد وينكر وجود النفس بعد الموت، لا شك بأن حرق الجسد سيخلق مشاكل كبيرة في الكنيسة.

ماذا ستفعل الكنيسة ؟

هل ستسمح بحرق الجثة وتدفن الرماد فقط؟

على الكنيسة أن تتخذ موقفاً واضحاً تجاه هذه المواضيع الرعائية.

هناك جوابين محتملين
1- الخدمة الكنسية ترتبط بالنظرة إلى تكريم الجسد البشري وليس إلى الرماد
2- خدمة الجناز ترتبط بالجسد المدفون، وليس بالرماد المدفون
هاتان الاشارتان تقودان إلى نتيجة، وهي أنه يجب أن لا تقام خدمة جناز لا قبل ولا بعد حرق الجثة. وعلى الكنيسة أن تبقى منفصلة عن الروح العالمية، وان تجنز وتدفن الأجساد الراقدة منتظرة القيامة. وفي الدينونة تقف الاجساد والارواح لتحاسب على افعالها حيث يشترك النفس والجسد في الفعل.
وجهة نظر مسيحية انسانية أخلاقية
الموت يشكل التهديد الثابت للحياة البشرية، وبما ان الكنيسة تؤمن بقيامة الأموات، وترفض حرق جثثهم لأن هذا مرتبط بإيمان الكنيسة بالانسان وهدف وجوده.
الجسد كما قلنا هو هيكل الروح القدس، هو الكنيسة الحية التي فيها يدعى الانسان لعبادة خالقه. فنرى الكنيسة تكرّم رفاة القديسين. وتدعوها ” ذخائر مقدسة” وعليها تبنى الكنائس والاديرة، لذلك فإن حرق الجثة يعتبر عبادة وثنية، لأن المسيحي ينتظر القيامة نفساً وجسماً، فالقيامة المنشودة تتعلق بأقنومه الجسدي والنفسي الكامل، وينتظر قيامة الانسان الجديد من داخل الجسد الفاسد.” نزرع بالفساد ونقوم بلا فساد”.

ان حرق الجثة لا ينقض عقيدة القيامة فحسب،بل يهاجم الشعورالمسيحي وأخلاقيات هذه العقيدة التي تمس شعور المؤمنين ومبادئهم وحياة الكنيسة. ان إقامة ذكراهم هو الطريق الأفضل لحفظهم أحياء في عقولنا، ويذكّرنا بأصلنا، بتقليدنا، وبواجباتنا نحوهم.

موقف الكنيسة الأرثوذكسية من حرق الجثة

الراقدون يُستودَعون التراب ولا يُحرقون، رسوخ هذه العادة وعدم حاجة الكنيسة إلى دعم موقفها، عبر القرون، جعل الأمر عادياً ولمّ يدفعْها إلى إصدار قوانين خاصة في هذا الشأن. هذا والعادات الراسخة في الكنيسة لها قوّة القانون كما أبان ذلك، مثلاً، القدّيس باسيليوس الكبير في قانونه السابع والثمانين، وكما ورد في العديد من المجامع المسكونية كمثل القانون السابع من المجمع المسكوني السابع الذي يقطع كل مَن يتجاوز القوانين غير المكتوبة في الكنيسة مما انحفظ في العادات القديمة.

التعليم حول قيامة الجسد يوم القيامة العامة هو تعليم أساسي في الكنيسة، لهذا كانت الكنيسة الأرثوذكسية ضد عادة حرق جثمان الميت في تدبيرها، وممارساتها، و لم يوافق آباء الكنيسة الارثوذكسية منذ البدء على عادة حرق الجثث والترميد ، لأنه يقلل الاحترام للراقد. والقانون الكنسي والتقليد العقائدي الارثوذكسي لا يوافقان على الحرق والترميد، وظهرت مؤخرا بعض الآراء المتشددة في مناهضة الحرق والترميد، تحت طائلة حرمان الميت من المراسم الكنسية. فالمسيح دفن بالجسد وقام بالجسد : ” هات يدك يا توما وجس يدي، وهات اصبعك وضعه في جنبي …” كما أظهر نوع القيامة عندما اقام صديقه العازر بعد أربعة أيام من دفنه، “حققتَ القيامة العامة” كما نقول في طروبارية اقامة لعازر.

موقف الكنيستين الكاثوليكية والبروتستانتية من عادة حرق الجثث

الكنيسة الكاثوليكية دانت هذه العادة في العام 1886 الكثلكة بقيت متمسّكة بالموقف الرافض لحرق الأجساد والتزمت عادة الدفن إلى أن طرأ تغيير على موقفها ابتداء من العام 1963. طبعاً لا زالت الكنيسة اللاتينية تفضّل عادة الدفن لكنّها صارت تقبل بحرق الأجساد. البروتستانت سلّموا بالأمر الواقع منذ مطلع القرن العشرين.

وقد تغيرت هذه النظرة اليوم فأخذت كنائس بروتستانتية في أوربة الغربية تحرق جثة الميت، وتتنامى هذه العادة باطراد في المجتمعات التي تدين بالمسيحية البروتستانتية.

الخاتمة

ليس من المسموح عدم معرفة الواجبات والارتباطات التي توجب خصوصية الانسان ككائن اجتماعي، إننا نشتكي دائماً من العولمة وتبعاتها على مجتمعاتنا، وان نسيج مجتمعنا بدأ يميل إلى التفكك، وبالتالي يجب أن لا نسمح بوجود أسباب لتشريع التفكك. فمطلب حرق الأجساد يمكن أن يكون مقبولاً ومحترماً ويعبّر عن رغبته وحرية الفرد في المجتمع المعولم، ولكنه في الوقت نفسه سيتحرك في اتجاه مناقض وينشئ تصرفا يصبح في نظر المجتمع سليماً.

الأرثوذكس ثابتون في موقفهم، ولو لم يكن هناك اي تنسيق فيما بينهم. أولاً تمسّكهم بالعادات الكنسيّة الراسخة في القدم جزء أساسي من تكوينهم الوجداني.

التراث، عندهم، حمّالة للإعلان الإلهي ونعمة الله. في شأن الجسد، فهمُهم له يمنعهم من قبول عادة حرقه والتخلّص منه. الجسد، جسد كل مؤمن، ينتمي إلى جسد المسيح. بإزاء الجسد البشري الذي اعتمد باسم الآب والابن والروح القدس، والذي ساهمت القدسات في تنميته، وسكنت فيه النعمة الإلهية، نحن بإزاء إيقونة للسرّ الإلهي، أي لعمل الله الفائق على العقل في الإنسان. جسد المؤمن، حيّاً كان أو ميتاً، دخل في واقعية جديدة تخطّت الواقع البشري البحت إلى واقع إلهي إنساني بسبب تجسّد الكلمة الإلهي. الميت عندنا راقد وليس خلواً من نعمة الله لأنّه لفظ أنفاسه. ليس هو جسداً مادياً برسم الانحلال بل هو إناء لروح الربّ، بذارٌ للقيامة، مطرح لتجلّي النعمة الإلهية. لذا الجسد، بمعنى، قربان. لا نعرف، تماماً، تفاصيل علاقته بالله كيف تستمر ولا كيف تستمرّ علاقته بصاحبه. بعض أجساد القدّيسين يفيض طيباً وبعضه تجري به عجائب وبعضه يبقى بلا انحلال. كل هذا يجعلنا، ككنيسة، نقف، برهبة، أمام إيقونة يسوع في المؤمن الراقد. نتعاطى جسده بتوقير كما نوقّر القدسات. المؤمنون، قديماً، كانوا يستميتون ليحظوا بأجساد القدّيسين ويدفنوها بإكرام جزيل. هذا ليس لأن نظرتهم إليها كانت نظرة إلى بقايا ترابية فانية بل إلى هيكل ارتضى الربّ الإله أن يقيم فيه، آباً وابناً وروحاً قدساً. هذا الموقف من جسد المؤمن الراقد ليس، بعد، شائعاً في الغرب الكاثوليكي أو البروتستانتي لأنّ الغلبة هناك صارت لإخلاء الكنيسة، بعامة، من سرّ عمل الله في المؤمنين والاكتفاء بالموقف الفكري النفسي المادي من هذا السرّ. هذا جعل الكنيسة في الغرب تقع في دهرية المسرى. وفي الدهرية لا فرق في الموقف العميق من الله والخليقة بين الدهرية المؤمنة والدهرية الملحدة أو اللاإدرية لأنّ الإنسان، في هذه الحال وتلك، يعبد نفسه ولا يمتدّ إلى الله، متى امتدّ إليه، إلاّ كمنظّم وضامن لشؤون البشر. البشر هم الموضوع لا الله. هذا إسّ الدهرية. لذلك السرّ الإلهي في الغرب المسيحي يموت، بعامة، إلاّ في بؤر. ولذلك، أيضاً، نفهم، بيسر، قبول الغرب المسيحي والغرب المعادي للمسيحية، في آن، النظرة الفكرية النفسيّة المادية إلى الإنسان. حرق الأجساد ما هو كممارسة إلاّ قطعة من الموزاييك الدهري المعاصر، الذي يمثِّل العودة إلى الوثنية هناك. وما الوثنية سوى عبادة الإنسان لنفسه وأهوائه وأفكاره.

أرثوذكسياً، إذاً، موضوع حرق الأجساد يعنينا من زاوية تمسّكنا بتجسّد كلمة الله واستمرار الكنيسة، بأبنائها كحقيقة إلهية إنسانية، كونها جسدَ يسوع. رَفْضُنا لممارسة حرق الأجساد هو رفض لترابية النظرة إلى جسد الإنسان وتمسّك بكون الإنسان قد دخل، مرة وإلى الأبد في نورانية عمل الله الأسراري في البشرية. هذا يجعلنا، أحياءً وأمواتاً، في آن، في تفاعل وروح الربّ نقف، بإزائه، بخوف ورعدة.

إذا كان الربّ يسوع قد أُودع القبر كما هو باللياقة الكاملة فخليق بتلاميذه أن يودَعوا القبر هم أيضاً دونما عبث بأجسادهم حتى كما أتته حاملات الطيب بطيبهن تأتي الكنيسةُ تلاميذَه بطيب صلواتها وإكرامها لرفاتهم إلى جيل بعد.

مصادر البحث

-د. عدنان طرابلسي (سألتني فأجبتك)

– المتروبوليت بولس صليبا ” حرق الجثة بعد الموت” / الشباب المسيحي

-عائلة الثالوث القدوس: ” نقاط على الحروف- الكنيسة وحرق الأجساد.”

 

Comments

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *