دير الصليب المقدس في دمشق
– جاء في كتب اللغة أن أصل كلمة الدير تعني الدار، بمعنى بيت الانقطاع والعبادة،
يسكنه الرهبان والراهبات، ولقد ظهرت الديارات أو الأديرة في المسيحية بإنشاء الرهبنة، والرهبنة فكرة تقوم على التوجه الى لله من خلال جهاد روحي يقصد به قهر الجسد والملذات الدنيوية، وقد نشأت في قفار مصر حيث جعل الرهبان المصريون الحياة النسكية مثلاً رائعاً للحياة الهادئة الهنيئة من أبطالها انطونيوس الكبير، مكاريوس وباخوميوس … وقد عاشوا واشتهروا بين القرنين الثالث والخامس المسيحيين وكان عيشهم في البراري والقفار.
ازدهرت الرهبنة بعد توقف الاضطهادات بحق المسيحيين نتيجة لبراءة ميلان السنة314م. وقد أطلقها الإمبراطور قسطنطين الكبير حيث سمح للمسيحيين بموجبها بحرية العبادة وأوقف حمامات الدم المسيحي. وقد رأى البعض فيها استشهاداً حباً بالمسيح بديلاً عن الشهادة الدموية، وقد امتدت الحياة النسكية إلى بلاد الشام بما فيها فلسطين ومنها انتقلت إلى بلاد اليونان وآسية الصغرى وأوربة.
في البداية أخذت الحياة النسكية طابعاً منفرداً أو شبه جماعي
عبر الكهوف والقلالي ثم انتظمت مع منتصف القرن الخامس في أديرة جماعية. أما في القرن السادس فقد تطورت الرهبنة حيث وُضعت لها نظم وتقاليد مرعية تسير تبعاً لقوانين أقرتها الكنيسة، وبلغت حياة الأديرة مكانتها السامية في القرون الوسطى بظهور فرق هامة في الرهبنة، ومع الزمن تحول الدير إلى قرية صغيرة مسّورة مستقلة يعيش فيها لرهبان أو الراهبات حياة تقشف وعبادة وعمل منتج مثمر.
تقام الديارات عادة على رؤوس الجبال أو ضفاف الأنهار، ومنها ما يقترب من المدن والأرياف، وتنفرد في البراري والقفار وتكون بمساحات مختلفة باختلاف عدد سكانها وقاطنيها من رهبان وراهبات، وغالباً ليس للأديرة هندسة بناء مقررة أو مستوفية لشروط المنازل العادية التي نشاهدها في المدن الكبيرة والصغيرة،وإنما تكون محّصّنة بسور منيع شاهق ليفع عنها هجمات المعتدين وما أكثرهم في جميع الأوقات والأزمات.
في بلاد الشام الكثير من تسميات القرى والمدن مسبوقة بكلمة الدير: منها على سبيل المثال لا الحصر: دير الزور- دير عطية – دير العشائر – دير العدس- دير علي … وان دل هذا على شيء إنما يدل على ان الأديرة كانت اسبق في تأسيس التجمعات السكانية في البراري والقفار والتاريخ المسيحي والتاريخ العام يشهدان للمتابعة من المؤمنين للرهبان وتجمعاتهم حيث تنشأ تجمعات سكانية محيطة بهذه الأديرة وتحمل لاحقاً أسماء الأديرة أو اسم الراهب كالقديس ثيوذورس (عطاء الله- عطية) الذي تكنت مدينة دير عطية باسمه على بعد 80كم على الطريق بين دمشق وحمص…
أما في دمشق الفيحاء وغوطتها الغناء فقد انتشرت الأديرة في كل مكان بمحيطها وعلى طول مجرى نهر بردى حيث الماء والخضرة بالإضافة الى سلسلة جبال القلمون وجبال بلودان حيث يقع دير اليونان في قمته ودير القديس جاورجيوس في بلودان (كنيسة القديس جاورجيوس) حيث أثبتت الهياكل البشرية أنها كانت للرهبان وعلى ذلك أصدر حقي العظم حاكم دولة دمشق عام 1922 القرار بإ’شادة الكنيسة في موقع الدير المندثر دير القديس جاورجيوس.
من هذه السلسلة الجلية (وُجدت صيدنايا أو صيد الظباء)
نسبة الى الأعجوبة التي اجترحتها السيدة العذراء بظهورها ظبية شهية للصيد للإمبراطور يوستنيانوس الحسن العبادة وقد أظهرت له ذاتها المكرمة وأمرته ببناء دير للمتوحدات فمكان ظهورها ووفق الهندسة التي وضعتها للدير وقد تسمت القرية لاحقاً (صيدنايا أو صيد الظباء)وقد حفلت أرض صيدنايا أيضاً بالأديرة والقلالي الرهبانية سهلاً، وفيها دير القديس خريستوفورس، و دير مار الياس الحي في معرة صيدنايا. وجبلاً كدير القديس جاورجيوس، ودير الشيروبيم و دير مار توما ودير مار بطرس… الخ مروراً بمعلولا وأديرتها كدير القديسة تقلا المعادلة للرسل حيث عاشت في بطن التلة بكهف ومالبث المؤمنون أن تبعوها وعاشوا في هذا المحيط كعيشهم في محيط دير القديسين سرجيوس وباخوس بعد أن حوله المؤمنون من هيكل وثني للضحايا البشرية . في يبرود وقارة وديرعطية المحكي عنها. كما أن الغوطة المحيطة بدمشق إحاطة السوار بالمعصم والممتدة حتى سفح قاسيون وكان فيها قبل الفتح الإسلامي لدمشق عام 635م 18 كنيسة وعدد كبير من الأديرة وبقيت بعض القرى فيها تحمل اسم دير كدير العصافير ودير العشائر…
ويجب أن نأخذ في الحسبان ان الكثير من هذه الأديرة قد دُمر بفتن طائفية او بفعل الغزاة كهولاكو أو الى مساجد كدير مار شمعون اليعقوبي في شرقي دمشق بالقرب من السور لوقوعه في القسم المفتوح حرباً وأصبح جامع الشيخ أرسلان ومقبرة دُفن فيها بعض الصحابة المرافقون للفتح.
ومن أشهر الأديرة التي اندثرت كان دير مران عند سفح قاسيون في موقع يطل على خانق الربوة في موقع بديع الحسن لذا كان مكاناً لراحة الخلفاء الأمويين وقد تميّز بحجارته الكلسية البيضاء وفي مكانه يقع حالياً قصر تشرين الرئاسي وليس بعيداً عنه كان دير النيربين بين فرعين من فروع نهر بردى في منطقة كيوان حالياً ودير رؤية القديس بولس في كوكب وبعض المؤرخين المسلمين يسمونه دير بطرس أو فطرس بالإضافة الى دير حنانيا الرسول في منطقة الميدان جنوبي دمشق (كنيسة حنانيا الرسول) وأديار أخرى كثيرة منها دير لم أستطيع معرفة اسمه حل محله جامع الثقفي في باب توما وقد جدد في منتصف العقد الرابع من القرن 20 بالإضافة الى دير الفراديس أو الجنان خلف باب الفراديس في موقع يماثل الجنة في حسنه حيث تتلاقى وتنفصل مجدداً مياه فرعين من فروع بردى.
أما دمشق القديمة المحاطة بسور بديع جعل من شامة الله في أرضه
وجنة الدنيا وإحدى عجائب العالم وخاصة عند المسلمين الفاتحين لها حيث رأوا فيها دقة الوصف عند نبيهم محمد بالشامة وأحد أهم المواقع التي بشر فيها الأنبياء وفيها قتل قايين أخاه هابيل ودفن في بطن جبل قاسيون وفيها ولد إبراهيم الخليل ويقولون أن بها لاذ عيسى ومريم أمه لاجئين الى ربوة ذات قرار ومعين ويقصدون فيها الربوة عند مدخل دمشق. ورأوا فيها أن عيسى سينزل بمنتهى الأزمان ليقاتل المسيح الدجال ويحددون مئذنة عيسى في الجامع الأموي مكاناً لنزوله، ولاشك أن في هذا كله تعبيرٌ عن إعجاب شعب كان محصوراً منذ القديم بين آفاق الحجاز القاحلة الجرداء… وكان فيها الى ما بعد الفتح الإسلامي 35 كنيسة ودير كان منها دير مريم وكان ملحقاً فيه ميتم لليتيمات اللواتي كن ينذرن أنفسهن للرهبنة لاحقاً في دير مريم وهو حالياً ميتم القديس بندلايمون للبنات اليتيمات، أما في الفسحة الأكثر خضرة شمالي دمشق فكانت تلك السهلة التي كانت تقع شمال باب توما في موقع القصاع حالياً وتخترقها فروع نهر بردى في محلة الصوفانية حالياً في طبيعة هادئة مليئة بأشجار الجوز والمشمش والتوت … وكانت المناخ الأرحب للحياة النسكية.
أما دير الصليب المقدس الذي يعود وفقا لمؤرخ دمشق مثلث الرحمات الأب أيوب سميا (شقيق جدي فارس زيتون بالدم) الى القرن الرابع المسيحي أي الى بدايات الرهبنة في بلاد الشام وكان يقع في موقع كنيسة الصليب الحالي في بستان محصوراً من جانبيه بساقيتي ماء وقد تسمى هذا البستان من تاريخه ببستان الصليب وقد سجل في السجل ألخاقاني الذي يعود الى بداية الحقبة العثمانية(القرن 16) بهذه التسمية علماً آن الموقع تسمى ببعض الأحيان بتسمية عارضة هي المأمونية وربما كانت تعود الى مالك له في وقت من الأوقات اسمه مأمون او في أحسن الأحوال كانت تعود الى الخليفة العباسي المأمون، كان دير الصليب المقدس يتربع في هذا البستان الذي حمل اسمه ككل المناطق والأديرة المحكي عنها وكان الرهبان يمارسون فيه أعمال الزراعة والصناعات البسيطة اللازمة للحياة الديرية إضافة الى التعبد بعيداً عن السكان وكانت قمح الدير يدرس في الأرض الواقعة في حرم الدير غربا والتي تحمل اليوم اسم ساحة برج الرؤوس ويبدو أنه لم يدخل في صفقة المبادلة التي حاول الخليفة الأموي الوليد عقدها مع مسيحيي دمشق بمبادلة كاتدرائية يوحنا المعمدان بكنائس وأديار الغوطة حيث ان المسيحيين لم يوافقوا على التخلي عن كاتدرائيتهم كما أن الوليد لم يعد لهم دور العبادة هذه بعد مصادرته للكاتدرائية لن المسلمين لا يوافقون على إعادة الكنائس المحولة الى مساجد ومنها الموجودة في الغوطة بعدما أُذن فيها وعلى هذا بقي هذا الدير قائماً وإلا لكان قد تحول الى مسجد كغيره، ولكنه آل الى الخراب في المرحلة الفاطمية التي شهت تدمير الكنائس بشكل منتظم ومن الكنائس التي دمرت كانت كنيسة مريم وكنيسة النساطرة في دمشق وكنيسة القيامة وغيرها في القدس والسيدة في القاهرة. واستمر خرباً في زمن المماليك وتحديداً زمن الظاهر بيبرس الذي انتقم من الفرنجة الغزاة بقتل أبناء البلاد المسيحيين ومثالنا تدميره مدينة أنطاكية ولم يكن فيها إلا سكانها المسيحيون عام 1268 حيث نكل بهم وقتل وسبى حوالي 100000 منهم وشرد موقع بطريركية أنطاكية وكما فعل الفعل المنكر ذاته( حين عودته من دماره أنطاكية) مع أبناء وطنه الذين تحت حكمه سكان بلدة قارة والقرى المجاورة المسيحيين حيث قتلهم وسبى من بقي منهم حياً وحول كنيسة قارة الى جامع قارة الكبير، واحضر سكاناً مسلمين من منطقة أخرى وأسكنهم في قارة. ودمر كنائس يبرود الخمس عقاباً لسكانها غلى تعرضهم لقوافل المسلمين بعدما فتك بهم. وبعد وفاته أعاد الرهبان بناء دير الصليب المقدس من جديد الى آن كانت غزوة تيمورلنك1401 حيث دمر الدير وقتل رهبانه كما دمر المدينة وفتك بأهلها وأقام في بيدر الدير برجاً من رؤوس الدمشقيين عقاباً لهم على مقاومتهم له. والمعروف أن ارض بستان الصليب آلت في القرن 19 الى آل الاسطواني الذين قاموا ببيعها الى جمعيتي القديس غريغوريوس لتربية الأيتام والقديس يوحنا المشقي ولجنة بناء كنيسة الصليب المقدس التي احتفظت بهذه التسمية الشريفة التي كانت للدير وأطلقتها على كنيسة الصليب حين بنائها عام 1932.
اترك تعليقاً