صفحات من التغريبة الروسية
قصة النبيلة الروسية أنستاسيا شيرينسكايا التي تحمل بيمينها كتاب هجرتها وتقيم في بنزرت منذ ما يربو عن التسعة عقود.
رحلة أنستاسيا وأشعار بوشكين
قد تراها هنا وقد تراها هنا وقد تراها هنا ولكنك في كل مرة سترى امرأة لا تمر كبقية العابرين بل هناك دائما من أهل بنزرت مَن يستوقفها وكأنه صديق حميم سيقول لك أحدهم هذه الأستاذة وسيقول آخر هذه مدام شيرينسكايا وسيقول لك آخر هذه بابو المشتقة من بابوشكا أي الجادة بلغتها الأم ولكن أحدا في هذه المدينة التونسية لن يقول لك إنها الغريبة المهاجرة، بلى هي النبيلة الروسية أنستاسيا شيرينسكايا التي تحمل بيمينها كتاب هجرتها وتقيم في بنزرت منذ ما يربو عن التسعة عقود، إلى هنا إلى سواحل بنزرت قدمت الطفلة أنستاسيا ذات الثماني سنوات بصحبة والديها وما يزيد عن ستة آلاف مهاجر روسي ممَّن رفض الثورة البلشفية وأعلن العصيان، لم يكن في نيتهم أن يطيلوا المقاومة في تونس وكانوا يمنُّون النفس بعودة قريبة ومظفرة ولكن بنزرت أبت أن تكون مجرد محطة، لقد أصبحت المحطة الأخيرة وأنستاسيا هي الشاهد الأخير، هذا هو بيت أنستاسيا في بنزرت، لا مزلاج في هذا السياج الحديدي ولكن هيا بنا ندخل البيوت من أبوابها، في البدء كانت روسيا وكانت أنستاسيا تنعم بحكايات الشاعر بوشكين عن أبطال خرافيين خيريين يحبون العالم ويقاومون الشر ولكن عاصفة شرعت في النضوب، لم تكد بلاد الثلج تنفض يديها من الحرب العالمية الأولى حتى دخلت في ثورة عظمى وسمت القرن العشرين بختمها الخاص قلبت الموازين وحكمت على العالم ببرود المثنى القطبي هذه الثورة التي كتب عليها كما على سواها بأن تأكل أبناءها، قضت على غير أبنائها بنار الهجرة نار هادئة وطويلة الأمد لقد فاجأ البلاشفة أنستاسيا وهي تلعب في انتظار عودة أبيها من قيادة إحدى سفن الأسطول الإمبراطوري الروسي الأسطول الذي أسسه باني روسيا الحديثة القيصر بطرس الأول في أواخر القرن السابع عشر والذي كان بمسيرته المظفرة مفخرة للحاكم والمحكوم ولكن طلقة سفينة أفرورا إيذانا بانطلاق ثورة أكتوبر الشيوعية قسمت تاريخ هذا الأسطول إلى روسي وسوفييتي وشطرت حياة أنستاسيا إلى طفولة وهامش طفولة لقد كانت أيام اختلط فيها الحابل بالنابل وجرت الأمبراطور على غير عادتها.
ضباط كثيرون من البحرية الإمبراطورية الروسية ومن ضمنهم والد أنستاسيا رفضوا الالتحاق بالثورة وظلوا على يمينهم وولائهم للقيصر، انضووا تحت لواء حكومة جنوب روسيا التي أرادت أن تعيد التاريخ إلى سالف عهده ولكن الزخم الثوري ما كان ليتوقف دون أن يتم مشواره الطويل مشوار ستعيش أنستاسيا وهي ترقبه طوال عقود الهجرة الطويلة.
من مدينة سيفاستوبول في الثاني عشر من تشرين الثاني سنة 1920 كان الانطلاق إلى المجهول خلال أيام معدودة تمت عملية إجلاء ما يربو عن المائة وخمسين ألف شخص عبر موانئ البحر الأسود وهناك وجدت أنستاسيا نفسها مع والدتها وأختيها في عرض البحر وهي منذ ذاك تعد الأمواج ولا تحصيها لأول مرة يفقد الأسطول الروسي زمام أمره، فرنسا التي تخلت عنهم في ساحة القتال أحست بمسؤولياتها تجاههم وهم يفتتحون سفر الهجرة، أما بريطانيا وأميركا فقد تنصلتا منهم نهائيا وكأن وهدا لم يكن منذ الآن سيكون على خطوط الأفق أن تلاحق خطوط الطول وسيكون على ضباط القيصر أن يسيروا على الإيقاع الفرنسي، في أقل من أسبوع وصلت السفن إلى اسطنبول تباعا، قبلت تركيا وصربيا وبلغاريا ورومانيا واليونان إيواء المدنيين، أما العسكريون فكان لابد من حمل خاص لإيوائهم وهنا وجدت فرنسا في دول المتروبول ملجأ ولو إلى حين وهكذا كان فقد بلغت أنستاسيا وصحبها شواطئ تونس في أواخر ديسمبر سنة 1920 كيف ألاقيها وكلانا لم يعد من هجرته، قضيت ما يربو عن الربع قرن في بلاد أنستاسيا منذ قال لي أحد المخضرمين السوفييت إن آخر أرستقراطية روسية تعيش في تونس وأنا أرصد إشاراتها عبر الصحف والرواة والبحارة وأرى فيما يرى الحالم أنني سألتقيها ذات صحو في انتظار ذلك كنت أتعثر في المكتبات والمتاحف بالمهاجرين من بني قومي سلكوا الاتجاه المقابل دخلوا القلب واصطفوا حول أنستاسيا، نعم هناك في قلب كل غريب منطقة حرة منزوعة المواطنة مأهولة بالغرباء الضاربين في أرض الله أصبحت الصورة مركبة من غربتين ولكن على ائتلاف لابد إذاً من تتويج هذه الألفة بين يدي بنزريات الروسية أطل على بنزرت من زواياها الأربعة أرى المساجد والميناء.. والميناء القديم أرى الكنيسة وأرى المقبرة وأقترب من عش أنستاسيا بادرتها بالسؤال فيما إذا سبق أن فكرت بنظرائها من المهاجرون العرب في روسيا أجابت بأنها تعرف أن هناك طلاب يدرسون وأن البعض منهم قد أتم دراسته وتزوج وعاد وتعجبت عندما أخبرتها بأن العرب انطلقوا إلى روسيا منذ أزمنة بعيدة لم آتي فقط لطرح الأسئلة لقد جئت لأسرد عليكِ قصص مهاجرين كبار أشعر برغبة جامحة في أن تجمعك بهم الحكاية فأنتِ الآن عميدة المهاجرين وقد تبادلتِ معهم الاتجاه واقتسمتِ معهم الدائرة هي قصص لكي لا نهلك باللقاء درب منطقة ليدي شهرزاد، هل تباركين المشروع؟
قال مراسل الجزيرة: تحدثنا عن ابن فضلان ورحلته إلى بلاد الروس والسقالبة في أواخر الربع الأول من القرن العاشر الميلادي قبل اعتناق المسيحية في روسيا ولكن الجاهلية لا تهم أنستاسيا كثيرا هي تفضل الأمير فلاديمير..
أجابت أنستاسيا شيرينسكايا: الأمير فلاديمير هو الذي عمَّد روسيا، كان ذلك سنة 988 م، يقولون إنه استقدم ممثلين عن الديانات السماوية الثلاث ولكنه اختار القسطنطينية عاصمة الامبراطورية الرومية، اختار المسيحية الارثوذكسية..
سألها مراسل الجزيرة: هناك من المهاجرين العرب في روسيا منغاي لجد أنستاسيا واختلف معه إلى نفس الأمكنة الشيخ محمد عياد الطنطاوي عاش في زمن محمد علي باشا وزمن رفاعة الطهطاوي في الأزهر وهناك مَن يقارن بين كتابه تحفة الأذكية بأخبار بلاد روسيا وكتاب تخليص الإبريز في تلخيص باريز وهو من شيوخ الأزهر، هل تعرفين الأزهر؟
أنستاسيا شيرينسكايا: نعم أعرفه..
وصل إلى روسيا 1840 عبر اسطنبول ليس بعيدا عن الأماكن التي هاجرتِ منها أنت بعد ذلك بعقود لقد كان يضرع شارع فيسكي في العاصمة سمبرتبور في الوقت نفسه الذي كان جدكِ الجنرال نسفيتيفيتش في جوار القيصر ألكسندر الثاني وقد كان عالم في اللغة استغل مواهبه في تدريس لغة الضاد في روسيا وترك صيت عطر لا يتورع بموجبه أيا من المستشرقين الروس على تسميته بالمعلم الأول أو معلم المعلمين ولهذا الرجل قبل غيره يجب أن يدين العرب بما تخلل الاستشراق.. من إنصاف وموضوعية ألا ترين أن جدك والشيخ الطنطاوي ربما التقط ذات كرم أو تكريم قبل قرن ونصف على الأقل رسم كلاهما في القصر نفسه؟
نعم لقد كان مسموح لجدي الأول الجنرال نسفيتي فيتش بتصوير أي شيء داخل القصر وخارجه وربما هناك من بين صوره صور للشيخ طنطاوي وقد يكون هو الذي التقط له هذه الصورة على كل أنت تروي لي قصص عرب هاجروا إلى روسيا وأنا سأروي لك عن روس جاؤوا إلى هنا أنا أفكر في شيء شبيه وهذه الحكايات والصور التي أريتنيها تتناغم مع رغبتي في كتابة ما يشبه ملحمة عن المهاجرين ستكون رواية وليس شهادة ككتابي السابق، هنا كانت ترسوا سفينة غيورغ الروسية الكبيرة التي انتقلنا إلى العيش على ظهرها بعد أن عزلنا الفرنسيون لمدة سنة في منطقة زرزونا خشية أن يكون بيننا مَن يحمل الفيروس البلشفي، عندما قدمنا إلى بنزرت سنة 1920 كان عددنا يزيد على الستة آلاف بما في ذلك ألف ضابط وأربعة آلاف بحار وتسعون طبيبا وألف بين نساء وأطفال عشنا ككائنات شبه بحرية في السفن أكثر من أربع سنوات قبل أن يسمح لنا بالإقامة على الأرض البنزرتية (تونس) وفي أثناء ذلك كانت سفينة غيورغي هي مدرستنا وكنيستنا وأماكن لهونا لم نكن نغادرها للنزول إلى ساحات المدينة فلم تكن لدينا أموال ولم نكن نشتري أي شيء كانت هذه السفينة مملكتنا وكنا نحن الأطفال نصعد إلى أعلى نقطة فيها ونشعر بأننا أصبحنا ملوكا للعالم كنا نتطلع إلى جبل أشكل حيث كان الباي التونسي يمارس هوايته في الصيد ومن هناك تتناهى إلى أسماعنا حكايات عن حيوانات متوحشة تعيش هناك ولطالما أنستني وأنا على هذه السفينة فكرة أن تكون هناك أنثى فهد صغيرة لا يفصلني عنها الكثير هذا الجسر لم يكن موجودا آنذاك وفي المكان نفسه كانت ترسو سفينتا اليكسيف وكارنيلوف فيما اصطفت بقية السفن الحربية وعددها ثلاث وثلاثون على طول الشاطئ.
لا يحفل الأطفال بشيء أما الكبار فقد وجدوا أنفسهم على قارعة التاريخ، انتهى نبل البحر وبدأت اليابسة تفرض شروطها، لابد من البحث عن أي عمل وأصبح أكثر ما يطمح إليه الجنرال زغليشن منصب حارس أو جنايني فيما يبحث الجنرال بابوف عن العمل ميكانيكا أما القبطان ياكوشيف فهاهو قد اقتنى مع زوجته عربة وحمارا لنقل المؤونة من المدينة والدة أنستاسيا لم تربى بنفسها عن العمل في بيوت الآخرين من أجل إطعام أولادها.
قالت أنستاسيا شيرينسكايا: سأروي لكم قصة الأدميرال بيرنس وقد كان قائد الأسطول وكان رجلا فذا ضحى بكل شيء من أجل الوفاء بيمينه لم تكن لديه عائلة ولا أبناء وفقط أولئك الروس الذين كانوا يعيشون بالقرب منه في ضاحية مجرين هم الذين كانوا يكابدون مأساته لقد رفض الجنسية الفرنسية رغم الإغراءات وفضل شظف العيش كان يقضي أيامه في صناعة ألعاب خشبية للسيدة لانغي التي قد تبيعها وقد لا تبيعها وكان يساعدها في صناعة القبعات السعفية، كان له أخ شقيق التحق بالبلاشفة، وأصبح أحد كبار قادة الجيش السوفيتي وهو أحد اثنين كانا على رأس اللجنة التي قدمت إلى بنزرت عام 1924 للاتفاق مع الفرنسيين على إغلاق ملف الأسطول الإمبراطوري في بنزرت ولكن الأدميرال بيرنز غادر إلى العاصمة عندما علم بأن أخاه على رأس هذه اللجنة ولم يراه أبدا.
هناك تاريخ رهيب تذكره أنستاسيا باليوم والساعة والدقيقة..
أنستاسيا شيرينسكايا: التاسع والعشرون من شهرتشرين الاول سنة 1924 الساعة الخامسة مساء وخمسون وعشرون دقيقة..
لحظة إنزال علم آندريه الذي ظل يرفرف على سفن الأسطول الروسي منذ 1696 لقد التقت مصالح الدول الكبرى واعترفت فرنسا بالاتحاد السوفيتي وكان ما كان.
أنستاسيا شيرينسكايا: دوى الأمر بإنزال العلم وما هي ألا دقيقة حتى نزل إلى الأبد استولت على جميع البحارة فكرة واحدة وكأن لسان حالهم يقول أين أنت يا بيوتر العظيم لترى علمك وهو ينزل أين أنتم أيها البحارة العظام سينيافن نخيموف أوشاكوف لتروا علمكم وهو يهوي لقد كانت لحظة مأساوية بحق تسمرت عندها نظرات البحارة لم يفهم أحد منهم كيف يمكن أن يتم إنزال العلم دون أن يرتفع في الغد ولعل المسن منهم نظر في حيرته هذه إلى الأدميرال وإلى الضابط الصغير ولكنهم جميعا كانوا يعايشون أكثر اللحظات مأساوية في حياتهم لا أستطيع أن أنقل لكم نظراتهم تلك وقد حاول البعض إيجاد صور فوتوغرافية تجسد تلك اللحظة ولكن الحقيقة أن أحد منا لم يكن يملك آلة تصوير آن إذا هناك أشياء غير قابلة للتصوير..
أنستاسيا الآن متعبة لقد أثرنا شجونها ولابد من حكاية نهدهد بها غول الحنين الطائش هناك شخصية أرى أن تجربتها شبيهة بتجربة أنستاسيا إلى حد ما أنها كلثوم عودة فاسيلفا فلسطينية درست في المدرسة النسكوبية بالناصرة وبيت جالا وهاجرت إلى روسيا في بداية الحرب العالمية الأولى وهناك تدرجت في تحصيلها العلمي إلى أن نالت درجة بروفيسور درست اللغة العربية في الجامعات الروسية في سان بيتربيرغ وموسكو عادت مرة واحدة إلى فلسطين سنة 1928 وعندما طلب إليها الحاج أمين الحسيني أن تبقى في الوطن سألته فيما إذا كان يضمن لها عدم ملاحقة قوات الانتداب البريطاني لها وعدم طردها من عملها ولكن المفتي أجابها مشيرا إلى ذقنه حتى هذا لا أمان عليه من الإنجليز فقفلت عائدة إلى روسيا كانت امرأة مبادئ وعندما اعترف الاتحاد السوفيتي بإسرائيل كتبت رسالة احتجاج شديدة اللهجة إلى ستالين معتبرة أن الاعتراف بإسرائيل هذا يأتي على حساب أرضها وشعبها والنتيجة طبعا معروفة أرسلت كلثوم وراء القطبان ولولا تدخل الدوائر الأكاديمية لما خرجت من هناك نزلت أنستاسيا إلى اليابسة وفي قلبها شيء من الأمواج دخلت معترك الدراسة ثم انتقلت بسلاسة المحتاج إلى التدريس عملت في مدارس خاصة لأن قانون التجنيس الفرنسي حرمها كما حرم والديها قبلها من العمل.
أنستاسيا شيرينسكايا: فقد أبي عمله بعد أن قضى فيه سبع سنوات والسبب هو قانون التجنيس الذي أصدرته السلطات الفرنسية في عشرينيات القرن الماضي والذي أصبح بموجبه على كل راغب في العمل أن يحمل الجنسية الفرنسية تعرفون هذا القانون كان موجها ضد المواطنين التونسيين وليس ضد المهاجرين الروس ولكننا عانينا منه كما عانى منه أهل البلد وقد فقد التونسيون وظائفهم في وطنهم لأنهم رفضوا فرض التجنيس عليهم ويشهد على ذلك ما حدث عندما رفض التونسيون دفن من تجنس في مقابرهم.
برتران دي لانواي: بالنسبة إلينا نحن البنزرتيين تعتبر السيدة شيرينسكايا بمثابة أم لهذه المدينة لقد درست الرياضيات لثلاثة أجيال وأنا شخصيا أعرف أناس درسوا الرياضيات عند السيدة شيرينسكايا وأخذوا بعد ذلك أحفادهم إليها لتدرسهم وهذه قصة تواصل جميلة.
أنستاسيا شيرينسكايا: كلاجئين لم نكن نتمتع بالحرية في اختيار اختصاصاتنا لقد كنا محاصرين بالحاجة وكان لابد من اختيار تخصص تستطيع من خلاله أن تحصل على قوتك لو اخترت أنا مثلا فن الرسم الصيني لما استطعت أن أطعم عائلتي وعليه فقد اخترت الرياضيات، الشاب مرتضي شيرنسكي الذي سيصبح زوجي لاحقا هاجر معنا كانت أمه خائفة عليه في تلك الأيام العصيبة فلم تجد لضمان مستقبل ولديها أحسن من الأسطول، قصدت الجنرال إليكسيي في هذا الأمر وبما أنه كان صغيرا لا يمكن قبوله بحارا فقد ألحق عامل كهرباء بإحدى السفن ولعله أحرق جميع الأجهزة الكهربائية على ظهر هذه السفينة.
أنه الأمير مرتضى شيرنسكي الذي أصبح منذ 1935 زوج بطلتنا وهو من سلالة شيرنسكي التي حصرت الإمبراطورة كاترينا الثانية ولاية منطقة فيدوسيا فيها ولذلك فإن التتار الروس يعتبرونها أميرة من أميراتهم.
أنستاسيا شيرينسكايا: إلى أنستاسيا الكسندرونا النبيلة الروسية الأميرة التتارية من مجلس التتار وهذه الجملة التي أثمنها كثيرا لقد جمع مصيرك الأزمنة والبلدان والتاريخ والناس وأنا لا أعتبر أن هذا راجع لشيء خاص لدي أتميز به إنما هو العمر الطويل الذي أمد فيه الله عمري الطويل سمح بعبور أحداث مختلفة أصبحت الآن تاريخية.
بيت أنستاسيا الذي أصبح متحفا
أنستاسيا شيرينسكايا: لقد أعطى زوجي لأمه وعدا بأن لا يترك دينه أبدا وقد عاش كذلك وعندما توفي توجهت إلى أصدقائي المسلمين وطلبت منهم تأبينه طلبت منهم أيضا دفنه كما تتطلب الشريعة الإسلامية وقد قدم المسلمون من الجامع وغسَّلوه وقرؤوا القرآن.
تحترم أنستاسيا الإسلام والمسلمين..
أنستاسيا شيرينسكايا: يجب أن تضع القرآن هناك في أعلى مكان لقد طلب مني المسلمون ذلك وأنا أحترم هذا الأمر نعم أنا أقرأ القرآن ولا أضعه هنا مع بقية الكتب بل هناك في الأعلى.
رحل مرتضى عن هذا العالم تاركا لأنستاسيا ابنتين هاجرتا بعد إذا إلى فرنسا وابن هو سيريوغا اختار البقاء إلى جوار أمه في بنزرت لأنستاسيا في فرنسا الآن سلالة من ثلاثة أجيال ولها صداقات عديدة مع من قدموا من بنزرت إلى هنا وليسوا جميعا من المهاجرين الروس بل أن بينهم من هو راسخ في كواليس السياسة والسلطة هذا هو برتران دي لا نواي أيام شبابه في بنزرت حيث ولد وترعرع وهاهو الآن عمدة لعاصمة النور لقد احتفظ هذا الرجل بود كبير لأنستاسيا وله في قلبها مكانة خاصة.
برتران دي لا نواي: هي شخصية لها طابعها الخاص وسحرها وهي جميلة جدا وأنا أذكر عندما كانت صديقة لأمي وفي الوقت نفسه مدرستي وكانت تربط العائلتين صداقة حميمة إنها امرأة جميلة جدا هي مزيج من الجمال واللطف والدفء الإسلامي الممزوج بالدفء التونسي.
أنستاسيا شيرينسكايا: برتران دي لا نواي أعرفه منذ زمن وهو الآن عمدة باريس أنه يحب بنزرت كثيرا ويزورها باستمرار فهو مولود هنا وأنا عرفت والديه وكنت أحترم كثيرا والدته
برتران دي لا نواي: أنستاسيا شخصية محترمة فهي تعبر القرن العشرين ولحسن حظنا جميعا هي حظيرة في القرن الواحد والعشرين لقد ترتبت منذ طفولتها على حب بلدها الأم روسيا وعلى الوفاء لقيم وتاريخ وأخلاق وفي الوقت نفسه على الانفتاح على الآخر وخاصة في البلد الذي احتضنها تونس والمدينة التي احتضنها بنزرت.
سرغي شيرينسكي: أشعر بأنني تونسي وروسي وتتاري نعم يعجبني التراث التونسي وقد كنا نغني عندما كنا نسافر بين المدن هذه الأغنية مثلا وأظنه أنها أغنية ستقسيا.. مثال للانتلجنس الزاهدة في أي نجاح عملي والصورة في قلبه مترامية وعصية على الالتقاط يعكف منذ فترة على إعداد فيلم وثائقي بعنوان نزهة الحالم الوحيد وقد اختار له ميدانا هذه المقبرة حيث يرقد وغيره ممن قدم معه إلى بنزرت.
أنستاسيا شيرينسكايا: أنستاسيا أيضا تزور هذا المكان بشكل دوري ولا تنفك تروي قصص هؤلاء الذين يرقدون بسلام بعيدا عن روسيا.
أنستاسيا لا تطرح على نفسها أسئلة من قبيل لماذا آتت إلى بنزرت أو لماذا لا تغادرها، بنزرت بالنسبة إليها ليست سؤالا، إنها محض جواب وهي ترى في تاريخ بنزرت قانونا لتحول الصدفة إلى ضرورة، لقد عرج الفينيقيون فترة ولكنهم عمَّروا المكان وجاء المورسكيون يبكون جنتهم الضائعة ولكنهم وسموا المدينة بالأندلس.
أنستاسيا شيرينسكايا: خير الدين بربا روس القرصان الكبير هو الآخر أتي إلى هنا لقد قصد الجزائر 1534ولكن الرياح ألقت به إلى شواطئ بنزرت وهنا استقر هو والكثير من الأتراك وفي سنة 1920 ألقى الأسطول الروسي مراسي في مياه بنزرت ولم يرفعها.
تروي أنستاسيا في كتابها أن أمها عندما رأت صورا لبنزرت حملها أبوها العائد من رحلة بحرية صاحت معجبة أما بنزرت فلا أظن أنني سراها ذات يوم قد أرى باريس ولكن بنزرت بعد اثني عشر عاما حلت والداة أنستاسيا ببنزرت مقيمة ولكنها لم تزر باريس أبدا رفض والد أنستاسيا أي مساومة بخصوص تغيير الجنسية رفض الجنسية الفرنسية التي فرضت على المهاجرين تحت طائلة الطرد من العمل.
أنستاسيا شيرينسكايا: أبي وأمي رفضا واعتبرا ذلك مساومة، نعم مساومة، سُمح لوالدي بالعمل ثم أرادوا أن يفرضوا عليه شرط التجنيس وهو رجل عسكري سبق له أن أقسم اليمين على الولاء لغيرهم أما بالنسبة إلي فقد كان اختيارا كنت أعرفه أنني لن أقبل مدرسة في المعاهد ومع ذلك رفضت الجنسية الفرنسية وتحملت مسؤوليتي.
فضلت أنستاسيا الاحتفاظ بوثيقة لاجئ من الأمم المتحدة إلى أن انهار الاتحاد السوفيتي بعد ذلك بعدة سنوات مُنح لها جواز سفر روسي طال انتظاره سنة 2000 أرسل لها الروسي كتابه مع إهداء بخط يده، تتشابه قصص الغرباء وإن اختلفت مصائرهم، توفيق كزما الدمشقي قدم من سوريا إلى عاصمة روسيا التاريخية كياف في بداية القرن العشرين وهناك درس ودرس وأحب وتزوج ولم يعد إلى سوريا ترك أرشيفا من التراجم والرسائل والهواجس، كان كهلا تجرع مرارة الاحتلال النازي والقبضة الأمنية عندما التقط امرأة شابة على جادة منحدر أندريه حيث كان يقيم بعد أن دستها عربة ولمَّا اكتشف أنها بكماء صماء أخذها إلى بيته وعالجها إلى أن تعافت وسرعان ما تزوجا وعاشا في سعادة وهناء، لقد قرأت في إحدى قصاصاتها التي كانت ترسلها إليه وهو على سرير الموت أنها تسميه عربيها الجميل، الكثير من أوراق الدمشقي وممتلكاته محفوظة الآن في متحف صغير وجميل بمدينة كييف، منذ فترة انقلب بيت أنستاسيا في بنزرت إلى محاج لابد أن يقصده كل مَن يزور تونس من الروس وهناك مَن يأتي من بعيد قصد زيارتها ويرتب لذلك قبل فترة عندما سألتها إن كان لديها أي تصور لتحول بيتها هذا إلى متحف بعد عمر طويل عادت لتنكفئ داخل تواضع الإنتجلنسيا هي لا تجيب على مثل هذه الأسئلة لأنها تعتبر المسألة خارجة عن نطاقها وحسبها أن تعيش لتحفظ الوفاء وتروي شهادتها أما بعدها فليأتي الخير كله من أهل بنزرت إن كانوا يريدون الحفاظ على صفحة ساطعة من تاريخ مدينتهم المضيافة ومن أبناء روسيا إن كانوا يريدون الحفاظ على قطعة مسترجعة من تاريخهم ما استطعت أنا أن أستشفه من كلام أنستاسيا أنها مهمومة بحفظ الوثائق والصور وما تبقى من قصة الأسطول الروسي الذي رسا في بنزرت مرة وإلى الأبد ولكنها لم تطلب تخليد ذكراها فهي لا تريد لنفسها شيئا من يدري أيتها الأميرة قد تلتقي الإرادة الطيبة لدى محبيكِ من أبناء روسيا وتونس ويتحول بيتك المتواضع هذا إلى متحف تظل تختلط فيه نسائم الهجرة والإقامة رافقنا أنستاسيا في مواعيدها مع طبيبها وهنا رأينا من الجميل ما لا يقاومه سوى رد الجميل.
مشارك: إنسانة عظيمة بأتمّ معنى الكلمة، الطاقم الطبي بتاع بنزرت جلوا درسته وكان ما درستوش درست أولياءه ولهذا إحنا شرف لنا أن نعتني بها وكلنا ومعتنين بها بصفة خاصة أختنا الكبيرة وأمنا وعزيزتنا وما نقدرش نتصور بنزرت من غيرها.
هناك في بنزرت بيوت كالحدائق المعلقة على البحر ولكن مَن يسمع من رضوانها أدخل أما أنستاسيا فكل الأبواب أمامها مشرعة.
رؤوف الزاوش: مدام شيرينسكايا عبارة عن أم عايشين معها سنين نعرفوها ونحبوها ونقدرها هذه المرأة أعطتنا مثل أعلى في التسامح امرأة تقدر الدين وتقدر الوطن اللي إحنا فيه.
هناك قرصان حنين في قلب أنستاسيا يجعلها في بحث دائم عن كنوز مسافرة، ها هي تبني من هذا الجورب الصغير حكاية روسية تونسية.
أنستاسيا شيرينسكايا: هذا الجورب لهادي مورالي وهو حفيد السيدة أمينة كل المختصين بالدراسات البوشكينية يعرفون هذا الاسم جيدا عندما كان شاعرنا المحبوب بوشكين سنة 1823 منفيا في مدينة أوديسا كان صديقه الحميم علي مورالي سليل العائلة التونسية التي سمح لها الباي بممارسة القرصنة وقد خلد بوشكين ذلك في مؤلفه يفجيني أولغين عندما ذكر القرصان باسمه في أحد قصائده القرصان المتقاعد مورالي وهناك من يقول إن الشاعر كان يفكر في الغروب من منفاه على سفينة صديقه مورالي.
أعلمتنا أنستاسيا أنه سيتم تكريمها في المركز الثقافي الروسي بتونس العاصمة لقد تغير الوضع في المهاجرة التي كانت تحت ستار التعتيم الإعلامي أصبحت منذ فترة نجمة ساطعة في سماء تصالح روسيا مع ماضيها.
أنستاسيا شيرينسكايا: عندما اعترفت فرنسا بالاتحاد السوفيتي وتواطأت مع اللجنة السوفيتية التي أرسلت إلى بنزرت نزلنا إلى المدينة وجاءت فكرة إقامة كنيسة لتخليد ذكرى هذه السفن ولذلك فأنتم ترون علم أندريه هنا وترون هذه اللوحة التي كتب عليها أسماء جميع السفن الثلاث والثلاثين هذه آخر سفن الأسطول الإمبراطوري الروسي وقد أخذها الفرنسيون بعيدا ومنذ ذاك لم يرها أحد منا.
بقدر ما تبدو أنستاسيا زاهدة في أمور الدنيا بقدر ما تبدوا حاسمة في أمور الدين سألناها تفكيك التغريبة الروسية كم فيها من الدين وكم فيها من الحنين هناك في العالم الآن من يطالب الأقليات المهاجرة بتجميد العامل الديني في ملف على رف أردنا أن نعرف انطلاقا من تجربة المهاجرين الروس فيما إذا كان الدين عامل ثبات ضروري.
أنستاسيا شيرينسكايا: روسيا والدين من يقول روسيا يقول ألف سنة من الثقافة ولكن علاما تقوم هذه الثقافة طبعا على الدين كل الثقافات مؤسسة على الدين عندما رمتنا الأقدار بعيدا عن أرضنا كان تمسكنا بديننا هو محور تمسكنا بهويتنا وقد حاول آبائنا حتى وهم في أحلك الأوقات أن ينقلوا لنا حب وطننا وثقافتنا وديننا مع التشديد على احترام جميع الأديان لأن الدين هو المجال الحقيقي لأكثر العواطف إنسانية لأكبر إمكانات التفهم الإنساني على أساس الدين تبنى الحضارات وكلما كان الإنسان متحضرا كلما كان متفهما لأخيه الإنسان.
أردنا أن نعرف فيما إذا منعهم المسلمون في هذا البلد من ممارسة معتقداتهم وشعائرهم.
أنستاسيا شيرينسكايا: أقام المهاجرون الروس كنائسهم في تونس عندما كان البلاشفة يهدمون الكنائس الروسية التاريخية في روسيا وهناك أوامر مكتوبة من قادتهم بهدم الكنائس وقتل رجال الدين عندما قدم الأب فيوفان من موسكو زار كنيستينا في بنزرت وفي تونس ورأي بأم عينه كيف أننا نعيش في هذا البلد بسلام ورأي كيف أن التونسيين لا يمنعوننا بل يساعدوننا وخاصة منهم المتزوجون بروسيات..
تؤكد أنستاسيا أن تاريخ الجالية الروسية في تونس يشهد على وجود صفحات ناصعة من التسامح الإسلامي
أنستاسيا شيرينسكايا: جزء كبير من الستة آلاف روسي الذين حلوا ببنزرت انتقل للإقامة في تونس العاصمة وهناك أرادوا أن يستأجروا مكانا للصلاة والعبادات وعندما قصدوا مالك إحدى الدور الكبرى في المدينة سألهم فيما تريدون هذا البيت إنه كبير أجابوه بأنهم سيتخذونه مكانا للصلاة والعبادة آن إذ قال لهم أولا خذوا المنزل وصلوا للرب، ثانيا أنا لا يمكن أن أتقاضى أجرا مقابل ذلك لقد استأنس المهاجرون الروس في شارع السراجين بالمدينة في العاصمة لدرجة أنهم لم يقيموا كنيستهم في شارع محمد الخامس بالعاصمة إلا سنة 1954 في حين أننا نحن في بنزرت قد أتمننا بناء كنيستنا منذ سنة 1937 اعترف المهاجرون الروس لصاحب هذا المنزل بجميل كبير وأكبر فيه كرمه واحترامه لهم ولدينهم وعندما توفي طالبوا إلى أهله أن يسمحوا له بتأبينه على طريقتهم وعندما سمح لهم جاؤوا أكثر من ألف شخص لتوديعه بتراتيلهم الجميلة وصلواتهم.
مراسل الجزيرة: أنستاسيا ألكسندر مانجان تكلم بصراحة لقد أتى بكم المستعمر إلى تونس وهو في ذلك لم يستشر سكان البلاد ألا ترين في ذلك تعسفا تاريخيا؟
أنستاسيا شيرينسكايا: لا يمكن أن نقول أن الفرنسيين الأقدار هي التي أتت بنا ثم إن الفرنسيين كانوا شدادا معنا فقد طردونا من العمل طردوا حتى من قضى في عمله سبع سنوات ممن رفض التجنيس كان بينهم من احترمنا وقدر مأساتنا مثل الإدميرال إكس لمونس ولكنه أقيل من منصبه بسبب احترامه لنا هناك من رحل مع فرنسا ولكن هناك من بقي هنا أنا شخصيا كنت ممنوعة من التدريس في المعاهد الحكومية إلى أن نالت تونس استقلالها التونسيون لم يساومونني على الجنسية ولم يطلبوا مني التخلي عن هويتي ولذلك فقد عملت في المعهد منذ أكتوبر عام 1957 ودون أية مشاكل.
مراسل الجزيرة: أريد أن أغتنم الفرصة لأسأل عن معنى الحياة في الغربة، عما يجعل الوفاء للوطن أهم حتى من العودة إليه؟
أنستاسيا شيرينسكايا: أنا آخر من بقي من أولئك الذين قدموا سنة 1920 كلهم يرقدون الآن في المقبرة وأشهد أنهم كانوا مؤمنين بالعودة لا يساورهم فيها شك وأنهم كانوا واثقين من أن الوطن سيعود وإن بعد سبعين وإن بعد ثمانين وإن بعد مائة عام في كل رأس عام كنا نقول العام القادم سنكون في روسيا هم لم يعودوا ولكن إيمانهم بالوطن كان أكبر من كل شيء الوطن غير قابل للتدمير وها هي روسيا هي التي تعود لتبحث عن ماضيها.
سألناها عن تباين مواقف إزاء الاتحاد السوفيتي الذي لم يكن تاريخه مستقيما كجبهة ناسفكي فقد وصل هتلر إلى تخوم موسكو هل شعر الروس في بنزرت بشيء من الشماتة هل تمنوا أن يرون النازيين وهم ويقدون أسوار الكرملن وهل سعوا للاستقواء بالأعداء.
أنستاسيا شيرينسكايا: لم يراودني أبدا أي تصور من هذا القبيل لأنني لن أقتنع أبدا أن هتلر أو أي ألماني نازي يستطيع أن يقدم شيئا للروس ربما أولئك الروس الذين تربوا في ألمانيا النازية كانوا يعانون من مثل هذه الأوهام أما نحن فكنا نعلم أن هذا المتعجرف هتلر كان يعتبر جميع الروس سمادا لألمانيا.
يظل المهاجر يعبر طريقا للعودة طوال غربته ولكنه عندما يعود فعلا يسلك طريقا مغايرة، أنستاسيا التي عاشت تتوسل البحر أن يعيد لها أسطولها وأن يعيدها إلى ضفاف الوطن عادت إلى موسكو بوثيقة لاجئ كُتب عليها يُسمح لها بزيارة جميع البلدان ما عدا الوطن .. هذه هي روبجنيا بعد سبعين سنة من الغياب عادت أنستاسيا عندما عيت القوائم السوفيتية عن حملها الثقيل وعز وجود مَن يسقي الفولاذ، عادت إلى البلدة التي كانت ذات يوم ملكا لعائلتها وأصبحت بعد ذلك كمشاع، هنا مد جدها الجنرال سكك الحديد وهنا المحطة التي لا تزال تحمل اسمه بيت الجد نسفيتيفيتش عاد أثرا بعد عين ولا تسعف الذاكرة الآن سوى تلك الصور التي التقطها الجد الكبير قبل قرن ونصف، أقيمت مكان البيت مدرسة والحديقة اكتنفها الضباب، الطفولة البعيدة والنافورة اختفت تحت سنابك خيل البلوريتاريا ولكن أنستاسيا وجدت ناتليا ميخائيل ابنة موفيتش، لقد عرفتها من اللحظة الأولى إنها حفيدة كيريل بن إيفان بن الغجرية السؤال الأكثر عبثية في روباجينا كان لماذا سافرت ها إننا نلتقي ثانية تساءلت أنستاسيا أين أنت يا ليل طفولتي وعادت إلى المرسى الأخير إلى بنزرت الآن وقد مزجت أنستاسيا الغربة بمحلول العودة مَن يستطيع أن يقاوم سحر السؤال التقليدي ماذا بعد عما تعكفين..
أنستاسيا شيرينسكايا: إذا كنت تقصد ماذا أكتب فأنا أزعم أني أعرف اهتمامات الأطفال وبي رغبة في أن أجمع مواد من التراث التونسي الغني لكتابة مجموعة قصصية للأطفال، أما إذا كنت تسأل عما اقرأ فأنا أقرأ عن ابن خلدون، إنه من مواليد تونس وقد التقى في دمشق بتيمورلانك إذاً أنا الآن بين ابن خلدون وتيمورلانك.
هذه هي الأميرة أنستاسيا، في الرابعة والتسعين من عمرها تكتب قصصا للأطفال، لقنوا أبناءكم ما تقوله أنستاسيا، لابد أنها ستعلمهم الوفاء فهي آخر من رأى جلجلة الأسطول يغرق واقفا ولا يغير الموجة وهي التي عاشت عمرها وكأنها تقيم في بنزرت أبدا وكأنها تعود إلى روسيا في كل غد، عندما طابت العودة اكتشفت أن الشاهد الأخير لا يملك أن يعود إلى هناك إلا لكي يعود إلى هنا لكي ينجز قصة، مَن يكتب القصة.