صفحة مضيئة من تاريخ الكنيسة في روسيا
إن بذور الايمان المسيحي قد نبتت في روسيا بتاريخ يسبق بكثير التاريخ الرسمي لإعتناقها ذلك الايمان الالهي، اذ يعود ذلك الى القرن الرسولي الاول حيث تقول إحدى روايات الكنيسة الروسية إن القديس أندراوس ( المدعو اولاً بين الرسل) هو الذي تولى أعمال التبشير بين اهالي هذه البلاد. ومما يؤكد هذه الرواية وجود اقوال مأثورة للقديس اندراوس تداولتها بين القرنين الأول والثالث المجتمعات المسيحية التي كانت تعيش آنذاك على الساحل الشمالي للبحر الأسود. بدأت بذور الإيمان المسيحي فى روسيا مع قدوم القديس “اندراوس” والذى كان تلميذاً ليوحنا المعمدان و من أوائل من تبعوا السيد المسيح وذلك حسب إحدى روايات الكنيسة الروسية التى تقول أن القديس اندراوس والذى يلقب في التقليد الارثوذكسي “بروتوكليتوس” اي أول المدعويين،ويعد تقليدياً أول أساقفة القسطنطينية.
كما دلت الحفريات التي أُجريت في بقايا الكنائس المسيحية لهذا العهد، في هذه المناطق، على استخراج عدد من القوالب المعدة لصنع أرغفة القربان المقدس، التي نُقشت عليها صلبان القديس أندراوس التي تتخذ شكل حرف (x).

وفي القرنين الثالث والرابع وُجِدَ على تخوم البلاد السلافية على الشواطئ الشمالية للبحر الأسود، عدد من الأسقفيات اليونانية التي تركت آثاراً تبشيرية على الأهالي السلاف المحليين وفي القرن السادس عشر، عمّرَتْ القبائل السلافية، معظم بقاع شبه جزيرة البلقان حتى انهم بلغوا الى موقع اسبارطة القديم. ومن هذا التعايش الوثيق مع المسيحيين اليونان نشأت أولى الجالليات السلافية المسيحية.
وفي عام 864م أرسل البطريرك المسكوني فوتيوس أسقفاً الى كييف أهم المدن الروسية آنذاك، لتأسيس كنيسة ( وكانت الدولة البلغارية وقتذاك قد اعتنقت المسيحية في العام ذاته). لكن في عام 878م قام أمير كييف أوليغ بإفناء أول جماعة مسيحية في مدينته. وظلت روسيا الكييفية رغم ذلك تتعرض لتأثير مسيحي شديد قادم من القسطنطينية وبلغاريا واسكندنافيا. ومن المؤكد وجود كنيسة في كييف منذ عام 945م،
وكان للأميرة أولغا أحفاد كثيرون أحدهم هو الأمير فلاديمير، الذى صار يعرف فيما بعد باسم “فلاديمير الأول” أو “فلاديمير الكبير” حكم فى الفترة من 972 إلى 1015م، وقام بتوحيد مناطق كثيرة فى روسيا، وفى عهده ظهرت الإمبرطورة الروسية وأصبحت ذات شأن.

وقد اعتنقت الأميرة اولغا الدين المسيحي سنة 955م واعتمدت في القسطنطينية العام 957م، وعاشت طيلة حياتها مؤمنة تعمل بلا كلل على نشره بين قومها داعية الله ان يبارك الشعب الروسي كما باركها. لكن ابنها (سفيا توسلاف) رأما ابنها سفياتوسلاف أبو فلاديمير فقد رفض اعتناق المسيحية وبقى على الديانة الوثنية وعبادة آلهة الفايكنج بالرغم من توسلات أمه ليقبل المعمودية، فقد اعتبرها خيانة عظمى لتقاليد شعبه.

إنما في ذلك الوقت كانت هناك بداية حركة تنصير واسعة النطاق بحيث تحولت بكاملها من الوثنية الى المسيحية وهي الدانمارك وايسلندا ثم النروج في القرن العاشر والسويد في القرن الحادي عشر، وغدا ممكناً منذ القرن العاشر وصف السلافيين الشرقيين بأنهم شعب يتألف من مسيحيين ووثنيين يعيشون جنباً الى جنب، الأمر الذي ذكره المسعودي في مروج الذهب.
وفي سنة 980م كان الامير فلاديميير ومعناه صاحب العالم (980-1015م) قد تولى إمارة كييف، وهو حفيد الاميرة اولغا ورئس اتحاداًواهي الروابط من القبائل السلافية لم يكن من الممكن الحفاظ عليه إلا بالقوة المسلحة، أو على الأقل بالتلويح باستخدامها، ولتقوية هذا الاتحاد اتخذ هذا الأمير الشاب قرارين هامين أولهما: أنه استقر في كييف ليمسك بأزمة الحكم بعد إهمال أسلافه لها لإنشغالهم بالحملات الحربية. وثانيهما: أنه حاول ان يوحّد القبائل السلافية من الناحية العقائدية (الإيديولوجية) بإحلال دين مشترك بينها جميعاً.
لذلك شرع بتحصين المدينة شرقاً ضد المغيرين الرحل كما حل مشكلة التوحيد العقائدي بإعطاء حقوق متساوية لكبار آلهة القبائل كلهم حيث وضع ستة من آلهة الوثنيين في كييف. أي أن كل آلهة القبائل عُبدت في كييف. الا أن المشكلة في ان هذه التدابير الدينية، ومع انها وحّدَتْ القبائل سياسياً وعقائدياً الا أنها عرقلت تحديث النظام الاقطاعي السائد من جهة الانتاج والعادات الاجتماعية.
وتضم سجلات الأحداث التي وقعت في روسيا منذ نيف والف سنة خلت واقعة تثير الدهشة والعجب هي واقعة اختيار الأديان.

معمودية روسيا
وفي سنة 987م أنار الله قلب الأمير فلاديمير، فرأى أن عبادة الأصنام هي عبادة كاذبة لأنها من صنع البشر لاعقل لها ولاتمييز فعزم ان يفتش أديان العالم في عهده ليعتنق وشعبه الدين الأصح، وأعلن للملأ أنه يريد الوقوف على الاديان ليميزها ويختار لنفسه مايحلو منا. فأتت اليه سفارات (وفود) دينية مختلفة من شعوب ذلك العصر(مسلمين ويهود وكاثوليك وارثوذكس) ومدّحت كل منها ديانتها أنها الاصح والأحسن.
قال المسلمون ان ديانتهم تحرم الخمر بتاتاً ( والروس لابد لهم من الخمر لبرد منطقتهم)، أما اليهود الآتون من جهة بحر الخزر فقالوا عندما سألهم عن ملكهم واين تقع مملكتهم: ” ان الله غضب علينا لخطايانا، وخرَّبَمملكتنا وبدَّدنا على وجه الأرض وانتزع الملك من يهوذا” فأجابهم: وأنا لااريد أن يغضب الله عليّ مثلكم، ويتبدد شعبي على وجه الارض”.
كذلك لم يرض بالمذهب الكاثوليكي اللاتيني الذي جاء وفده من الفاتيكان لعدم اقتناعه بما تم تقديمه. أما رئيس وفد القسطنطينية الرومية الفيلسوف الارثوذكسي قسطنطين فقد اسمعه عظة بليغة شدّته بقوة سحرية، وقد روى له فيها التاريخ المقدس، وعرض بايجاز تعاليم المسيحية وأراه في حديثه الروحي، صورة عن القيامة العامة، والدينونة، حركت كل مشاعره،حتى صاح بملء صوته:” طوبى للأبرار ويا لتعاسة الأشرار”.
لم يكتف الامير فلاديمير بالسفارات التي اتت اليه من جهات العالم، وبحديثه مع أفرادها، إنما أرسل وفداً من ذوي الفضيلة وسلامة التفكير لكي يذهبوا ويروا بأم العين حقيقة الواقع الملموس لكل من هذه الاديان وليشاهدوا بأنفسهم كيف يبدو كل منها في موطنه.
نفذ المبعوثون المهمة وزاروا عواصم هذه الأديان، وعاينوا هذه الاديان، فبدت لهم الاوضاع والحركات التي يأتيها المسلمون في صلواتهم غريبة، كذلك لم يجدوا في الطقوس اللاتينية مايرضي من الناحية الجمالية: “إذ لم نجد فيها قط اي جمال يُذكرْ”.
زاروا أخيراً مدينة الله القسطنطينية العظمى عاصمة الامبراطورية الرومية، وعاصمة مجد الأرثوذكسية، ودخلوا كاتدرائيتها العظمى، آجيا صوفيا (الحكمة الالهية)، وكان القداس الالهي فيها مقاماً برئاسة البطريرك المسكوني ” رئيس اساقفة القسطنطينية العظمى ” وكان فيها في ذلك الحين على ماذُكِرَ في التاريخ ستون كاهناً ومائة شماس وتسعون ايبو ذياكوناً(شماساً مبتدئاً) وعشرة قراء وخمسة وعشرون مرتلاً ومائة قندلفت (خادم علماني للكنيسة = سدنة الكنيسة) والجملة كانت 485 مكلفاً بالخدة الالهية فيها. فسمع المبعوثون الروس القداس الالهي الذي احتفل به البطريرك المسكوني بمساعدة عدد من المطارنة والاساقفة، وهذا الحشد الكبير من خدّام مذبح الرب المقدس بحضور الأمبراطور الرومي باسيليوس، وطارت قلوبهم فرحاً وانتعاشاً لما راؤه من ذلك الخشوع المؤثر والابهة الملوكية والترتيب الفائق والنظام الكامل بالرغم من ضخامة العدد، فحسبوا ان أولئك المرتلين هم ملائكة جاؤوا من السماء يسبحون الله على الأرض، وأن تلك القبة العظيمة هي رمز القبة السماوية الزرقاء، وخرجوا من الكنيسة منتعشين متأثرين فرحين، وعادوا الى كييف، حيث نقلوا للأمير فلاديمير ماخالج نفوسهم، من هذه المشاعر بقولهم: نحن لم نكن ندري ما إذا كنا قد صعدنا الى السماء، أم بقينا على وجه الأرض، فالأرض لايوجد عليها مثل هذا الرونق، أو ذاك الجمال، ونحن لاندري كيف نصف ماشهدناه، وكل مانعرفه هو أن الله ماثل هناك بين البشر، وان قداسهم أفضل من اي شيء شهدناه في سائر البلاد، ولن ننسى أبداً جمالاً كهذا الجمال”.
وترددت على ألسنتهم دون انقطاع لفظة الجمال، وكانت تجربة الجمال هذه بمثابة حجة لاهوتية حاسمة: فهناك حيث الجمال، يوجد الله بين البشر، وعندئذٍ كان بمقدور الأمير أن يختار، فتناول الكلمة بدوره معلناً: إلى أيننتوجه إذن لكي نتعمد؟
الى القسطنطينية
توجه الامير فلاديمير الى القسطنطينية، طالبا من البطريرك المسكوني القيام بمعموديته ومعه شعبه. فأرسل البطريرك المسكوني الى كييف المطران ميخائيل السوري الأصل والمنشأ، وتلميذ البطريرك الأنطاكي يوحنا الخامس الذي قام ومن معه بمعمودية الروس الجماعية في نهر الدنييبر سنة 988مسيحية، واقترن الامير فلاديمير بالأميرة أنا شقيقة الامبراطور الرومي، واصبحت الأرثوذكسية حينئذ دين الدولة في روسيا من تلك المعمودية الجماعية وقد انطلق الآباء افراد البعثة الامبراطورية- البطريركية القسطنطينية في كل الارجاء الروسية معمدين ملايين الروس معموديات جماعية في الانهر الروسية كما فعل المطران ميخائيل في تعميد الامير فلاديمير والاسرة المالكة واركان الحكم وشعب كييف في نهرها.

وقد عمل الامير فلاديمير بجهد كبير لتنصير روسيا، فجاء من الخارج بالكهنة والذخائر والآنية المقدسة والأيقونات، وتلقى المعمودية جماعات متتالية في الأنهر الروسية (كما اسلفنا)، وأنشئت المحاكم الاكليريكية. كما أُقِّرَ مبدأ ( العشر ) لصالح الكهنة، ودُحرجَ الصنم الكبير الممثِل للإله ( Perun ) بيرون الى قعر التلة التي كان يشرف منها على كييف.
وراحت ابواق الملائكة وأصداء الانجيل تتعالى في جميع المدن، وأصبح الهواء يتقدس بالبخور المتصاعد نحو الله في كل الارجاء الروسية، وقامت الاديرة فوق الجبال وفي الكهوف وفي الغابات النائية، وفي كل مكان. وكان جميع الروس رجالاً ونساءً صغاراً وكباراً يملأون الكنائس المقدسة التي شهدت همة فائقة في بنائها، وكذلك تم اعتماد بعض المراكب النهرية لتصبح كنائس متنقلة لتقوم بالرعاية الروحية ومناولة القربان المقدس للبعيدين عن المركز الحضرية وخاصة في الجزر النهرية وفي شواطئ الانهار البعيدة.
همة روحية كاملة تلت مرحلة عماد كييف، وبدأ الروس يقبلون بحماسة الى الكهنوت والرهبنة الرجالية والنسائية.
وسواء في روسيا الكييفية، او ارجاء الامبراطورية الرومانية الشرقية ( الرومية)، او في الغرب، او في بلاد الشام ومصر، لعبت الأديرة دوراً كبيراً، وكان أشهرها في روسيا دير كهوف اللافرا بالقرب من كييف وهو يعد مفخرة رهبانية ارثوذكسية في الكنيسة الاوكرانية وامها البطريركية الروسية حالياً. وهو أقدم الأديرة، وأسسه الراهب الروسي أنطونيوس الذي ترهب وعاش في جبل آثوس المقدس.
تميزت الرهبنة الروسية والرهبان من الجنسين، حتى الآن، بروح الوداعة والتواضع وشدة الورع، وعاشوا النذور الرهبانية ( الفقر والعفة والطاعة) بأمانة دقيقة.
التبعية الكنسية
ظلت الكنيسة الروسية خاضعة للقسطنطينية، طيلة إزدهار كييف، بحيث أنه وحتى عام 1237م كان متروبوليت كييف بونانياً مرسلاً من المجمع القسطنطيني المقدس، لذلك، وحتى الآن، لاتزال الكنيسة الروسية ترتل باليونانية ما ندعوه ( البولخرونيون) او الدعاء الاسقفي للأسقف.
انما من الجدير ذكره، أن كييف لم ترتبط بالبطريركية المسكونية وحدها، بل وأيضاًمع اوربة الغربية، بدليل وجود الكثير من التنظيمات الكنسية الغربية فيحياة الكنيسة الروسية، كالعشر مثلاً، وهو من أصل غربي. وكان الكثير من القديسين الغربيين يُقابلون بالتكريم، مع أن أسماءهم لم تكن واردة في التقويم الارثوذكسي، وقد قيل في بعض الاحيان أن روسيا الكييفية كانت اقرب للغرب من اي وقت آخر من تاريخها حتى عهد بطرس الاكبر.
لكنها كانت مدينة للثقافة الرومية أكثر بكثير منها للثقافة اللاتينية. لذلك كان نابليون بونابرت محقاً من الوجهة التاريخية حين لقَب امبراطور روسيا اسكندر الأول ب “يوناني من الامبراطورية الواطئة”.

الغزو المغولي وتداعياته السلبية
في سنة 1237م قضى الغزو المغولي على روسيا الكييفية، وسُلبت هذه المدينة العاصمة، واجتاح المغول جميع روسيا، عدا نوفغورد.. والتاريخ يشهد أنه لم يعد يُشاهد في جميع الاراضي الروسية مدينة او قرية لم تتعرض للخراب، وتُرى الجماجم منثورة بشكل لامثيل له في غزوات التاريخ. لكن مع ذلك وان كانت كييف قد تعرضت للدمار، إلا ان ذكرى مسيحيتها ظلت حيةتحت اسم روسيا الكييفية. ولم تُمحَ أبداً من ذاكرة الأمة الروسية تماماً بحيث أن اندريه غروميكو رئيس وزراء الاتحاد السوفييتي (قبل البيروسترويكا وسقوط الاتحاد السوفيتي، اي في اواخر العهد الشيوعي) صَّرح في احتفالات روسيا بيوبيل معموديتها الالفي:” بأن تاريخ روسيا يبدأ مع كييف ومن المعمودبة”.
الكنيسة الروسية زمن المغول
استمرت سيطرة التتار المغوليين على روسيا من العام 1237م حتى العام 1480م، لكن معركة كوليكوف الكبرى عام 1380م التي انتصر فيها الروس أضعفت سيطرة المغول الى حد كبير، وبحلول عام 1450 لم يبق لهم تقريباً سوى سلطة اسمية.
وقد ساهمت الكنيسة الروسية في القرنين 13 و14 في ايقاظ الوعي القومي في روسيا. ونتيجة لما تعرضت له كييف غان 1237 على يد المغول لم يعد من السهلان تقوم له قائمة فحلت محلها إمارة موسكو في القرن 14 التي ارتبطت عميقاً بالكنيسة. فقد اقام بها بطرس متروبوليت روسيا من السنة 1308 وحتى 1326، واصبحت منذ ذلك التاريخ مقراً لأعلى سلطة دينية في روسيا. وقد برزت ثلاث شخصيات مهمة جداً في تاريخ الكنيسة الروسية خلال فترة الاحتلال المغولي هم القديس الكسندر نفسكي والقديس استفانوس اسقف برم والقديس الراهب سرجيوس من دير رادونيج.
الكسند نفسكي هو احد كبار القديسين المحاربين الروس وكان اميراً على نوفغورد وهي الإمارة الروسية الوحيدة التي نجت من غزو المغول عام 1237. وبعد قدومهم بقليل وجد نفسكي نفسه مهدداً من أعداء آخرين من الغرب هم الأسوجيون والجرمان والليتوانيون. لذلك كان يتعذر عليه أن يقاتل على جبهتين مرة واحدة فقرر الخضوع لسلطة التتار ودفع الجزية لهم. وبادر الى قتال أعدائه الغربيين، فأنزل بهم هزيمتين قاسيتين: الاسوجيون سنة 1240 والفرسان التوتونيين سنة 1242.

وكان السبب الدافع لنفسكي الى اختيار هذا السلوك هو ان التتار يمتنعون عن التدحل بشؤون الكنيسة حين يدفع لهم الجزية، بينما الفرسان التوتونيون كان هدفهم المعلن هو لتننة روسيا واخضاعها للبابا كما فعل الفرنجة بغزوهم المشرق وانطاكية، فأقاموا بطاركة لاتينيين على كراسي القسطنطينية وانطاكية واورشليم بعد اضطهادهم بطاىركتها ومطارنتها، حتى بالقتل، وعزلهم عن كراسيهم، ويكفي ان نذكر ستة بطاركة لاتينين اعتلوا الكرسي الانطاكي حين غزواته التي دامت حوالي القرنين من 11 الى 13.
وقد قال نفسكي ذات يوم لرسل البابا:” إن عقائدنا هي التي بشر بها الرسل، نحن نحافظ بدقة على تفاليد آباء المجامع المسكونية السبعة القديسين، أما بالنسبة لأقوالكم ، فنحن لانريد سماعها كما اننا نرفض عقيدتكم”.
توفي الكسندر نفسكي سنة 1236، بعدما جاهد للحفاظ على أرثوذكسية روسيا، لذلك طوبته الكنيسة الروسية كأحد أعظم قديسيها.
أما القديس استفانوس اسقف برم 1340-1396 فقد بيّن شكلاً آخر من حياة الكنيسة في ظل المغول يتعلق بنشاطاتها التبشيرية منذ البداية، ومنذ البداية كانت الكنيسة الروسية مهتمة بالتبشير. والروس استعجلوا السعي لإرسال مبشرين الى الوثنيين. وفي سنة 1261 قصد الأسقف ميتروفان الى (ساراي) عاصمة التتار على الفولغا. وذهب آخرون لتبشير القبائل الوثنية في الشمال الشرقي، واقصى شمال القارة الروسية وترجم المبشرون هؤلاء الكتاب المقدس وكتب الليتورجيا الى اللغات واللهجات المحلية للشعوب التي كانوا يقصدونها تماماً كما سبق للقديسين الشقيقين كيرلس وميتوديوس ان فعلا حين تبشيرهما السلاف ، ووضعهما للأبجدية السلافونية في القرن الثامن للمساعدة في تنصير السلاف. وقد عمل القديس استفانوس بين القبائل الزريانية بعد أن أعد نفسه ثلاثة عشر عاماً في أحد الأديرة، تعلم خلالها اللهجات المحلية الى جانب اللغة اليونانية بهدف إعطاء ترجمات رفيعة المستوى إتماماً لهدفه التبشيري السامي، وفي ترجمته استعمل الحرف المستخدم محلياً، وقد استفاد من موهبته في تصوير الأيقونات، لابل وظّف هذه الموهبة مُظهراً في تصويره للأيقونة ان الله ليس فقط إلهاً للحقيقة بل هو اله للجمال.
ونأتي الى القديس الراهب سرجيوس رئيس دير رادونيج 1314-1392 كبير القديسين الروس. وقد اشترك اشتراكاً فاعلاً في استصلاح الأراضي البور وزراعتها كالفلاحين البسطاء، بينما هو في الأصل من اسرة كريمة، وقد شابه في كل سيرته القديس انطونيوس الكبير أبو الرهبنة في مصر،حيث اعتكف في الغابات الغابات، وأنشأ فيها منسكاً على اسم الثالوث الأقدس، ما عتم أن أصبح أضخم مركز ديني في فترة روسيا الموسكوفية.
من رادونيج والمراكز الأخرى امتدت بسرعة شبكة كبيرة من الأديرة عبر مجمل الشمال الروسي والدائرة القطبية.
في حياته أسس تلاميذه خمسين ديراً تلاهم آخرون من التلامذة من جيل لاحق فأسسوا أربعين ديراً، وقد سبق هؤلاء الرهبان الأبرار في فتحهم لهذه المناطق الحكومة ، فأنشأوا الأديرة واستصلحوا الأراضي التي حولها إضافة الى همهم الأول، ألا وهو التبشير بالأرثوذكسية بين القبائل الوثنية التي كانت تعيش في الغابات المجاورة لأديرتهم.
إن التاريخين الديني والسياسي في روسيا اعتبرا سرجيوس (باني روسيا) وعلى ثلاثة صعد هي
الصعيد السياسي: حيث شجع انطلاقة موسكو ومقاومتها للتتار.
الصعيد الجغرافي: حيث كان أكثر من انطلاق الرهبان نحو غابات مجهولة وتأسيسهم للأديرة في مجاهلها البعيدة، لأن ذلك تبدىعملياً بتأسيس مجتمعات مدنية منتظمة محيطة بهذه الاديرة بسبب تشجع العلمانيين وسكنهم في هذه الحواضر المُحدثة إقتداءً بالرهبان.
الصعيد الروحي: اما على هذا الصعيد فقد أدت خبرته الرهبانية الى جعل حياة الكنيسة الروسية الداخلية أكثر عمقاً، ولعله بخبرته هذه ووعيه الروحي أدرك بضرورة إقامة التوازن بين الصعيدين الاجتماعي والصوفي في الحياة الرهبانية لذلك اختلف مع القديس انطونيوس الكبير في هذه النقطة بالذات، حيث أقام مجتمعات رهبانية منتظمة، وبفضله وتلاميذه لاحقاً، كان القرنان الممتدان من عام 1350 الى عام 1550 بمثابة العصر الذهبي للروحانية الروسية.
وقد شكل هذان القرنان أيضاً العصر الذهبي لفن الأيقونات الروسي. حيث وصلوا بفن الايقونات الرومي الارثوذكسي القادم اليهم الى مستوى الكمال. وعلى شرف القديس سرجيوس، رسم تلاميذه أيقونة الثالوث القدوس للقديس روبليف، ووضعت في ديره في برادونيج.
بعد مرور إحدى وستين سنة على وفاة سرجيوس، وفي عام 1453 تحديداً سقطت القسطنطينية بعد حصار ومعارك دامية، استبيحت المدينة على أثرها ثلاثة أيام بلياليها. وحُُولَّت كاتدرائيتها العظمى آجيا صوفيا الشهيدة، الى مسجد، صلى به الفاتح محمد السلطان العثماني بعد السقوط. وبذلك سقطت القسطنطينية التي شغلت منصب رومة الثانية المدافعة عن الايمان الارثوذكسي القويم ضد البدع والهرطقات طيلة نيف وعشرة قرون تماماً، كما خطط لها المعادل للرسل الأمبراطور قسطنطين الكبير منذ قيامه بتدشينها عام 320م.
وانتقلت المهمة الى موسكو لتصبح رومة الثالثة، بعد مساهمة الراهب سرجيوس الفاعلة في ذلك كما سلف، وأخذت موسكو الارثوذكسية مكانة القسطنطينية التي سقطت بغزو الاتراك الهمجي لتصبح الحامية للايمان والعالم الارثوذكسيين كما سيتضح تاريخياً.
موسكو رومة الثالثة
لم يبق بعد سقوط القسطنطينية وبقية العالم الارثوذكسي ( اليونان، بلغاريا، صربيا، رومانيا،…) بيد الأتراك سوى روسيا وحدها. وقد شعر الروس أن الله وهبهم الحرية لأنه أختارهم لخلافة الأمبراطورية الرومية في دفاعها عن المسيحية الأرثوذكسية. وصادف ذلك مع استقلال الكنيسة الروسية عن البطريركية المسكونية / القسطنطينية واعتبارها البطريركية الارثوذكسية الخامسة، ففي سنة 1448 انتخب المجمع الروسي المقدس المتروبوليت بدون العودة الى القسطنطينية خلافاً للمألوف، وذلك احتجاجاً على موقف الكنيسة الرسمية في القسطنطينية المؤيد للأمبراطور الرومي قسطنطين الثالث عشر الذي وافق على الاتحاد مع رومة الكاثوليكية وتحت سلطة بابا رومية بنتيجة مقررات مجمع فلورنسا الكاثوليكي، وكان قصد الامبراطور الرومي الحصول على دعم البابا ومن وراءه ملوك اوربه الغربية في صراعه ضد العثمانيين، وقد نظر الروس الى ملكهم الذي حمل لقب القيصر على انه حليفة الاباطرة الروميين الارثوذكسيين، ونظروا الى موسكو على انها رومة الثالثة، وقالوا في ذلك: ” ان الله عاقب رومة الاولى على هرطقتها فسقطت في أيدي البربر الجرمان والقوط الاريوسيين.
وكذلك عاقب رومة الثانية ( القسطنطينية) بسقوطها بيد العثمانيين لسقوطها بدورها في هرطقة مجمع فلورنسة. اما موسكو فهي رومة الثالثة التي لن تنحدر الى الهرطقة. وستبقى محوراً للأرثوذكسية الجامعة.
وكانت الأكاديميات اللاهوتية العظمى، واللاهوتيون الكبار، والقديسون العظماء الذين غذوا الكنيسة الارثوذكسية بمؤلفاتهم الحقة.

العلاقات بين الكنيستين الإنطاكية والروسية
ان اول اسقف علم الروسيين وعمدهم كان هو الاسقف ميخائيل السوري الموطن والمنشأ تلميذ البطريرك الانطاكي يوحنا الخامس. وفي عام 1586 زار البطريرك يواكيم بن جمعة روسيا، وأيَّد القيصر غودنوف في مطلبه بتحويل الكنيسة الروسية التي كانت تابعة للبطريركية المسكونية (بحيث أنها كانت توفد متروبوليتها من مطارنة الكرسي القسطنطيني) الى بطريركية. ولعب الانطاكي يواكيم دورا محوريا في التلبية، وفاتح البطريرك القسطنطيني أرميا واقنعه بذلك الامر، فزار ارميا روسيا عام 1589، واسهم في انتخاب أول بطريرك روسي على كنيسة موسكو وكل الروسيا هو ايوب ، واصبحت هذه البطريركية هي البطريركية الأرثوذكسية الخامسة بعد القسطنطينية والاسكندرية وانطاكية واورشليم.
ثم قام البطريرك الأنطاكي مثلث الرحمات مكاريوس بن الزعيم بسفرتين شهيرتين الى الكسيس والبطريرك الروسي نيكونموسكو وكل الروسيا، الاولى استمرت سبع سنوات من 1652 الى 1659، والثانية استمرت 3 سنوات من 1666 الى 1669، حيث في الاولى رسم كهنة وشمامسة في مقاطعة كولومنا، واصلح مابين موسكو ومولدافيا، كما اصلح في سفرته الثانية بين القيصر الروسي الكسيس ، والبطريرك الروسي نيكون عام 1667 وعاد بسفرتيه بأموال كبيرة ساهمت في تقدم الكرسي الانطاكي وفي وفاء ديونه الباهظة زمن الظلم العثماني وبلص الولاة للكنيسة والمسيحيين.
واشتكى البطريرك الانطاكي (مثوديوس 1823 – 1850) بدوره من ظلم العثمانيين وضرائبهم الفاحشة على الكرسي الانطاكي، فأرسل مطران بعلبك نيوفيطوس الى روسيا يستنهض همة المجمع الروسي ومتروبوليت موسكو (كان منصب البطريرك مجمداً بقرار من بطرس الاكبر حتى اقيام الثورة الشيوعية عندها اعاد المجمع الروسي الحياة لمنصب البطريرك 1917) والقيصر الروسي والنبلاء وحمية الشعب نحو الكرسي الانطاكي، وكانت الثمار بوقف كنيسة كبرى في موسكو وملحقاتها عام 1848 وحتى الان، جُعلت “الامطوش الانطاكي في موسكو” وتُخصص عائداته لمنفعة الكرسي الانطاكي وتعليم ابناء الكرسي الانطاكي.
وفي عام 1868 كتب البطريرك الانطاكي ايروثيوس تقريظا في وفاة الميتروبوليت الاكبر فيلاريت متروبوليت موسكو الذي قدم ومجمعه والشعب الروسي الحسن الغبادة الكثير من الاحسانات من اجل اعادة بنيان ماتهدم في احداث 1860 الطائفية، على يد المعتمد الانطاكي المثلث الرحمات غفرئيل شاتيلا (مطران بيروت ). كتب فيه : “لقد انقلبت أفراحنا بيوبيل فيلاريت الى دموع نذرفها بسبب الخسارة التي اصابت العالم الارثوذكسي بوفاته”.
وساهمت روسيا كثيراً في إذكاء الشعور القومي. عند الارثوذكس الوطنيين في فلسطين والكرسي الانطاكي لاعادة الكرسيين الى ابنائهما، ومع عام 1898
وبتسليم السدة الانطاكية للمثلث الرحمات البطر يرك ملاتيوس الدوماني كأول بطريرك وطني بعد زمان طويل استمر من 1724 عندما استولى الفريق المتكثلك بقيادة كيرلس طاناس على المقر البطريركي الدمشقي وعلى الكاتدرائية المريمية بدمشق، الى عام 1898 باستقالة البطريرك اليوناني اسبيريدون، عندها فُتحتْ صفحة جديدة في تاريخ التعاون بين الكرسيين الانطاكي والروسي.
في عام 1898 تسلم الارشمندريت روفائيل هواويني ( القديس ) رئيس الارسالية السورية الارثوذكسية في اميركا الشمالية عصا الاسقفية في نيويورك من اسقف آلاسكا الروسي تيخون ( الذي تولى البطريركية الروسية عام 1917 وقت قيام الثورة الشيوعية في روسيا كأول البطاركة الروس بعد التوقف بأمر بطرس الأكبر.
في عام 1913 رئس البطريرك الانطاكي العطيم غريغوريوس حداد احتفالات أل رومانوف بمرور ثلاثمائة سنة على تملهم العرش الروسي، ورُقي الى الاسقفية من صار بعدئذ الكسي بطريرك موسكو، وعلى ذلك سار البطريرك الكسندروس الثالث والبطريرك ثيودوسيوس السادس والياس الرابع واغناطيوس الرابع الذي رئس احتفالات روسيا بيوبيل معموديتها الالفي1988 وكانت حدثا هاما وتاريخيا في حياة الارثوذكسية العالمية خصوصا، والمسيحية عموما (ويوحنا العاشر حيث اعدنا كتابة هذه التدوينة وفتها الذي حضر الاحتفالات بمئوية اعادة منصب البطريرك الى الكنيسة الروسية في 5 كانون الاول 2017 بدعوة من قداسة البطريرك كيريل كما يلي ادناه.
الاحتفال بمئوية اعادة منصب البطريرك الى الكنيسة الروسية 1917
وسط حضور أرثوذكسيّ عالميّ كبير، وبدعوة من بطريركيّة موسكو وسائر روسيّا، احتفلت الكنيسة الروسيّة الأرثوذكسيّة بالذكرى المئويّة الأولى لمجمع موسكو المحليّ الذي أعاد منصب البطريرك إلى الكنيسة وأطلق مجددًا المجمعيّة في هذه الكنيسة بعد انقطاع استمر لثلاثة قرون.

الاحتفال الكبير الذي يشبه اللؤلؤة الأرثوذكسيّة، أقيم في قاعة الاجتماعات في كاتدرائيّة المسيح المخلّص في العاصمة موسكو. في 5 كانون الاول 2017
بطاركة من سائر البطريركيّات الأرثوذكسيّة وفدوا برفقة لفيف من المطارنة والأساقفة والكهنة والشمامسة والعلمانيين ليستذكروا سويّة المحطّات التاريخيّة التي شهدتها روسيّا من جهة، وليظهروا حضورهم الأرثوذكسيّ الكبير والفعّال وسط تحديّات الأزمنة من جهّة ثانيّة.
وأكّدوا في الكلمات التي تُليت أن”استعادة منصب البطريرك إلى موسكو قد شكّل ضمانة واضحة للشعب الروسي وللكنيسة التي قدّمت العديد من الشهداء“.
استهل حفل اليوبيل المئوي بالصلاة، تلاها كلمة الافتتاح القاها البطريرك كيريل بطريرك موسكو وسائر روسيّا شكر فيها أصحاب الغبطة البطاركة والوفود الكنسيّة على مشاركتهم وحضورهم، الذي يضفي أمل كبير ورجاء على الكنيسة الأرثوذكسيّة جمعاء.
بعد ذلك، تعاقب البطاركة الأرثوذكس جميعهم على الكلام منوّهين بالعلاقات التاريخيّة والمتينة التي تربط بطريركياّتهم بالكنيسة الروسيّة الأرثوذكسيّة.
أمّا كلمة البطريرك يوحنا العاشر فقد لامست الوجع الأنطاكي في مضامينها حينما قال:
” لقد بدأ ليل الكنيسة الأنطاكيّة بخطف مطراني حلب بولس ويوحنا كما بدأ ليل الكنيسة الروسيّة باغتيال المتقدّم في الكهنة يوحنا (خوشروف)، وقد ظن الخاطفون أنّهم بخطف هذا المطران يرهبون الكنيسة ويخطفون صوتها. الّا أن صوت الكنيسة الأنطاكيّة صوت الحق ما زال يدوي مطالبًا بالعدل والسلام والكرامة للشعب السوري.”
كما ثمّن البطريرك يوحنّا الدور الذي اطلّعت به الكنيسة الروسيّة ووقوفها إلى جانب الكنيسة الأنطاكيّة بمواقفها بخصوص الأزمة السوريّة ومساعيها الحثيثة ومساعداتها الانسانيّة، والتي جاءت استمرارا وتتوّيجًا لتاريخيّة وأصالة العلاقة الروسيّة الأنطاكيّة.
وفي السياق عينه، نوّه غبطته بالجهود الروسيّة للقضاء على الإرهاب ولدفع مسيرة السلام في سوريا والحفاظ على استقرار لبنان.
وتوجّه غبطةالبطريرك يوحنا العاشرة إلى قداسة البطريرك كيريل بالقول:
” لا شيء يضاهي فرح أنطاكيّة اليوم فيما هي تشارك في هذا الاحتفال البهيّ الذي أسس له الشهداء والمعترفون الذين شاركوا في مجمع موسكو المحلي العام ١٩١٧م والذي تبقى أعماله ذخرًا للأرثوذكسيّة الجامعة.
وفي الختام، رفع غبطته الصلاة من أجل ان تتمكّن الكنيسة الارثوذكسيّة معًا من مواجهة التحدّيات الجديدة التي تعيشها الكنائس الأرثوذكسيّة وتلك التي تطرحها الحياة المعاصرة على مجتمعاتنا بقلب واحد وعزم واحد.”

خاتمة
في ختام بحثنا هذا (الذي نشرناه في النشرة البطريركية بدمشق العدد 4 نيسان السنة الثالثة 1994) واضفناه الى موقعنا السابق بتدونتنا السنة 2014، الذي خرج عن الخدمة بكل اسف لاسباب فنية لايد لنا فيها عام 2022 فأعدناها هنا في موقعنا الجديد الحالي وفق ماكان مع اضافة اعلاه لغبطة البطريرك يوحنا العاشر ومشاركته في اليوبيل المئوي لعودة منصب البطريرك الروسي 2017.
في ختام بحثنا هذا لابد لنا ومن باب الانصاف أن نذكر بالخير ما للجمعية الامبراطورية الفلسطينية – الارثوذكسية الروسية من فضل على التعليم الارثوذكسي في الكرسيين الانطاكي والاورشليمي، ( انظرها هنا في موقعنا) حيث قدمت بدعم من عم القيصر الروسي خدمات جلى في مجال تعليم ابناء الكرسيين وماقدمته بمؤازرة الدولة والشعب الروسيين في الحفاظ ما امكن على الارثوذكسية أمام الحملات التبشيرية المتلاحقة بمدارسها المتطورة وإكليريكييها الذين جهدوا بدون كلل للتننة القطيع الارثوذكسي وفشلهم ما ادى الى شق الصف الارثوذكسي الانطاكي اساسا وتبعه الاورشليمي والاسكندري واقاموا بطريركية تجمع المنتمين في الكراسي الثلاثة في كرسي واحد، وبقية الارساليات البروتستانتية…!وقفت هذه الجمعية الروسية بغيرة ارثوذكسية موصوفة ومن ورائها الاسرة الحاكمة الروسية بقيادة القيصر نفسه والنبلاء والكنيسة والشعب حتى منه البسيط مع الارثوذكسية في الكرسي الانطاكي وسائر المشرق وكذلك مع الكرسي الاورشليمي فتبنت العديد من الطلاب الاكليريكيين، ووفرت لهم ماساعدهم على متابعة دراساتهم العالية لاهوتياً في أكاديميات روسيا واصبحوا من لاهوتيي انطاكية والارثوذكسية العظام كالمطران جراسيموس يارد وبشكل او بآخر خريستوفوروس جبارة، والقديس روفائيل هواويني… مما ساعد في كبح جماح هذا التبشير والاقتناص الضاري.
لقد فتحت هذه الجمعية العظمى المدارس في رقعة سورية الواحدة شاملة فلسطين وانشأت دارا للمعلمين في الناصرة من خريجيه الاديب ميخائيل نعيمة ودارا للمعلمات في بيت جالا…
ان اشد مايؤلم ونحن في العقد الأخير( في المنشور الاساس ولكن بكل اسف لازلنا في العقلية الاحتوائية والاستلابية ذاتها) من القرن العشرين أن لاتزال العقلية السلطوية والاحتوائية لدى هؤلاء ” الأشقاء”، وكأن التاريخ يكررنفسه مع غزوات الفسان التوتونيين على روسيا لؤاد الارثوذكسية والحاقهم ببابا رومية والفاتيكان في القرن 13 ومثيلها في الشرق العربي مع غزوات الفرنجة العسكرية (القرون 11و12 و13) ومع غزوات جحافل الجمعيات الرهبانية التبشيرية منذ القرن15 والانشقاقات التي تمت في الكنائس الشرقية وآخرها الكنيسة الانطاكية الارثوذكسية وحتى الآن. والأشد ايلاما هو اعتبار ارض هذه الكنيسة الروسية الشقيقة ارض الشهادة للمسيح حتى الدم بقوافل من الشهداء بدءا بالبطريرك تيخون… بفعل المجازر الشيوعية، والاعلان المؤسف خروجه من كنيسة شقيقة بأن روسيا وشعبها ارض تبشير مستغلة ضعف الامكانيات المادية لدى شعوب روسيا واوربه الشرقية في محاولاتها الاحتوائية، والاجدر بهذه السلطات بهذه السلطات الكنسية الشقيقة أن تضع نصب العين قول الرب يسوع عن كنيسته التي اقامها بدمه القدوس على الصليب :” الله في وسطها فلن تتزعزع وابواب الجحيم لن تقوى عليها”.
كما عليها ان تدرك ان الكنيسة الروسية الشقيقة عادت الى صدارة المجتمع بعدما بقيت مختبئة في قلوبأفراد الشعب الروسي وخاصة اطفاله، وان عودتها هذه تمت بفعل دموع ايمان هذا الشعب العظيم في ايمانه بالمسيح وبكنيسته الارثوذكسية المستقيمة الرأي… التي ذرفها امام الايقونات المخبأة، وبعد قتل مقصود لهذا الايمان ومنذ 1916 وحتى انهيار الاتحاد السوفييتي لأكثر من سبعة عقود الحادية وقتل للشعب المؤمن في المعتقلات وفي سيبيريا وتدمير الكنائس واغلاق معظمها ومنع المؤمنين وخاصة الاعمار الفتية من الصلاة ولكن الاصعب تدمير كاتدرائية المخلص التي استغرق بناؤها اكثر من عشر سنوات ونسفت بأمر ستالين بالديناميت وجعل نكانها مسيح كبير، ولكنها عادت ناهضة وهي من اهم رموز الايمان المسيحي الارثوذكسي .
ويبقى اخيراً، ان نقول، أن هذه الحملات التبشيرية المنتظمة يجب ان توجه الى ارض إله الالحاد المعاصر، التي منها تنبعث هذه الحملات، لتعيد الى العالم ماسبق وقدمته المسيحية له من الأخلاق والفضائل والقيم روسيا الارثوذكسية خير أمين على هذه القيم.