حجر رشيد وشامبليون

في ذكرى اكتشاف حجر رشيد.. كيف تم فك رموز اللغة المصرية القديمة؟

 ترجع قصة اكتشاف الحجر إلى عام 1799، عندما عثر جندي فرنسي يدعى بيير فرانسوا بوشار على الحجر في مدينة رشيد الواقعة في شمالي مصر
ترجع قصة اكتشاف الحجر إلى عام 1799، عندما عثر جندي فرنسي يدعى بيير فرانسوا بوشار على الحجر في مدينة رشيد الواقعة في شمالي مصر.

يوافق التاسع عشر من يوليو ذكرى العثور على حجر رشيد. ترجع قصة اكتشاف الحجر إلى عام 1799، عندما عثر جندي فرنسي يدعى بيير فرانسوا بوشار على الحجر في مدينة رشيد الواقعة في شمالي مصر.

صُنع هذا الحجر من البازلت الأسود. ويبلغ ارتفاعه 113سم، وعرضه 75سم، وسمكه 27.5 سم. وكان من ضمن مواد البناء التي استخدمها العمال في تجديد بناء إحدى القلاع برشيد. لفت الحجر نظر الجندي الفرنسي بما نُقش عليه من رموز وكتابات غير مفهومة. سارع بوشار بالتحفظ على الحجر وأخبر رؤساءه بقصته. لم يكن يعلم أن اسمه سيُخلد بسبب هذا الكشف الذي سيميط اللثام عن الكثير من ألغاز التاريخ المصري القديم.

سنلقي الضوء في هذا المقال على قصة هذا الحجر، وجهود العلماء في فك طلاسمه، لنعرف كيف لعبت الصدفة دورًا مهمًا في التعرف على قصة إحدى أقدم الحضارات الإنسانية.

ما قصة الحجر؟

تمكن الإسكندر المقدوني في الربع الأول من القرن الرابع قبل الميلاد من ضم أراضي واسعة في مصر وبلاد الشام والعراق وبلاد فارس. توفي الإسكندر دون وريث، وتم تقسيم مملكته بين ثلاثة من كبار قادة جيشه. كانت مصر من نصيب بطليموس، الذي أسس سلالة حاكمة عُرفت باسم البطالمة. وتمكن ملوك تلك السلالة من حكم مصر حتى استولى عليها الرومان في عام 30 ق.م.

تعود قصة حجر رشيد للعصر البطلمي، وتحديدًا لسنة 196 ق.م. وافق هذا العام الاحتفال بالذكرى الأولى لجلوس الملك بطليموس الخامس أبيفانس -والتي تعني الإله الظاهر- على عرش مصر. كان الملك لا يزال طفلًا صغيرًا، وأراد أعوانه أن يكسبوا رضا المصريين. أعلن بطليموس الخامس إعفاء الشعب والمعابد من الديون والضرائب، وأصدر قرارًا بالإفراج عن عدد كبير من المسجونين والهاربين. أعلن بطليموس أيضًا ترميم بعض المعابد المصرية.

دون الكهنة تلك القرارات على قطعة من الحجر البازلتي الأسود، وهو الحجر الذي سيُعرف فيما بعد باسم حجر رشيد.

قابل الكهنة هذا الكرم الملكي بحفاوة ظاهرة. أصدروا مرسومًا دينيًا نص على وضع تماثيل للملك في المعابد. واعتبروا ذكرى تتويج الملك بمثابة عيد قومي للمصريين جميعا. دون الكهنة تلك القرارات على قطعة من الحجر البازلتي الأسود -وهو الحجر الذي سيُعرف فيما بعد باسم حجر رشيد- وكتبوا المرسوم بثلاثة خطوط معروفة في مصر في ذلك الوقت. كان الخط الأول هو الخط الهيروغليفي -وتعني النقش المقدس- وهو الخط المستخدم في الكتابات الدينية القديمة. أما الخط الثاني فكان الديموطيقية -وتعني الخط الشعبي- وهو الخط الشائع في مصر البطلمية. وكان الخط الثالث هو الخط الإغريقي اليوناني الذي استخدمه البطالمة واليونانيون في ذلك العصر.

ينقل الباحث المصري سليم حسن في كتابه “موسوعة مصر القديمة” بعض المقاطع التي وردت على حجر رشيد. من ذلك ما جاء في بيان فضل الملك على المصريين “…وقد أمر جلالته بالآتي: أن ما يتعلق بقربان الآلهة، وكذلك الفضة والحبوب التي كانت تُعطى سنويًّا للمعبد، وكل أشياء الآلهة من كروم وأراضي بساتين، وكل شيء يخصهم كانوا يملكونه في عهد والده المبجل؛ يجب أن يُترك مُلكًا لهم، وأمر كذلك أن يُنزل عن الضريبة التي كانت تؤخذ من يد الكهنة أكثر من الضرائب التي كانت تُدفع في عهد جلالة والده المبجل…”. وأيضًا “أعاد جلالته استعمال كل الأشياء التي كانت منذ زمن طويل غير منظمة إلى نظامها الحسن، وقد كان مهتمًّا جدًّا بكل الأشياء التي كانت تُعمل عادة لمنفعة الآلهة، وكذلك عمل ما هو حق للناس مثل ما فعل الإله «تحوت» المزدوج العظمة… وكذلك حمل هم إرسال مشاة وفرسان وسفن ضد أولئك الذين كانوا يأتون من المدن أو من البحر، ومنح فضة كثيرةً وغلالًا لأجل أن يهدئوا أراضي حور (= المعابد) ومصر…”.

ينتقل النص بعد ذلك للحديث عن رد فعل الكهنة المصريين “…ويجب أن يُحفر هذا المرسوم على لوحة من الحجر الصلب بكتابة من كلم الإله، وبكتابة الرسائل، وبالكتابة الإغريقية، (ويجب على الإنسان) أن ينصبها في المكان المقدس (المحراب) في المعابد الخاصة المبينة من الدرجة الأولى والثانية والثالثة، وذلك بجوار تمثال ملك الوجه القبلي والوجه البحري «بطليموس العائش أبديًّا، محبوب بتاح» الإله الظاهر سيد الجمال”.

وهكذا، يمكن القول إن الحجر الذي عُثر عليه في رشيد كان -بالمقام الأول- محاولة لرد الجميل من جانب الكهنة المصريين، حاولوا من خلاله أن يعربوا عن امتنانهم لسياسات الملك بطليموس الخامس.

مصير حجر رشيد

حجر رشيد وشامبليون
حجر رشيد وشامبليون

ورد في كتاب “قصة فك رموز اللغة المصرية القديمة” الصادر عن وزارة الثقافة المصرية “أن الأقدار لعبت دورًا كبيرًا فيما يتعلق بمصير هذا الحجر”. تبدو تلك العبارة صحيحة إلى حد بعيد بالنظر لما وقع للحجر بعد العثور عليه.

أرسل الجندي الفرنسي بوشار الحجر إلى قائد الحملة الفرنسية نابليون بونابرت في القاهرة. أرسل بونابرت هذا الأثر إلى المعهد العلمي المصري والذي كان مقرًا للحملة العلمية الفرنسية بمصر. ترك نابليون مصر وعاد لباريس ليسيطر على مقاليد السلطة فيها، وترك قيادة الحملة لمساعده جان بابتيست كليبر الذي اُغتيل على يد سليمان الحلبي في 1800. تولى جاك مينو قيادة الحملة بعدها، وأخذ الحجر معه ووضعه في منزله بالإسكندرية.

اتفق الفرنسيون مع الإنجليز على الجلاء من مصر في سنة 1801، تم الاستيلاء على الحجر -بوصفه أحد غنائم الحرب التي سُلبت من الفرنسيين- وأُرسل إلى لندن. وفي سنة 1802 أهدى الملك الإنجليزي جورج الثالث الحجر إلى المتحف البريطاني. كانت العادة في تلك الفترة أن يتم عمل نسخ من النقوشات والآثار المهمة لتوزع على كبرى متاحف أوروبا. وزعت نسخ من حجر رشيد على جامعات أكسفورد وكامبريدج وباريس. وبدأ جميع المهتمين في دراسة ذلك النص المهم.

جهود العلماء في فك رموز الحجر

كان فك رموز حجر رشيد محصلة لمجهودات العديد من العلماء والباحثين على مدار السنوات. غابت أسماء العديد من هؤلاء العلماء بينما بقي اسم العالم الفرنسي الأشهر جان فرانسوا شامبليون وحده مرتبطًا بذلك الإنجاز الفريد من نوعه.

يؤكد بعض الباحثين أن جهود فك رموز اللغة المصرية القديمة. بدأت قبل العثور على حجر رشيد بفترة طويلة. على سبيل المثال, يذكر الباحث المصري عكاشة الدالي في كتابه “الألفية المفقودة: مصر القديمة في كتابات العرب” أن اثنين من العلماء المسلمين عرفوا اللغة المصرية القديمة، وهما أحمد بن أبي بكر بن وحشية وذو النون المصري اللذان عاشا في القرن الثالث الهجري.

لو رجعنا للجهود التي بُذلت لفك رموز حجر رشيد سنجدها بدأت في سنة 1802 على يد عالم الطبيعة الفرنسي سلفستر دي ساسي. عمل دي ساسي على مضاهاة النص الديموطيقي بالنص الإغريقي. وتمكن من تحديد ثلاثة أسماء واردة في النصين، وهي أسماء بطليموس، والإسكندر، والإسكندرية.

في سنة 1802 أهدى الملك الإنجليزي جورج الثالث الحجر إلى المتحف البريطاني.

تلقف الراية الدبلوماسي السويدي أكربلاد، سار على نهج دي ساسي وركز على النص الديموطيقي. توصل أكربلاد إلى معرفة نصف حروف هجاء الخط الديموطيقي، كما توصل إلى بعض أسماء الأعلام وحدد بعض الضمائر.

لعب العالم الإنجليزي الشهير توماس يونج دورًا مهمًا في فك رموز حجر رشيد بعد أكربلاد. خمن يونج أن هناك علاقة بين النص الديموطيقي والنص الهيروغليفي. وعمل على مضاهاة النص الديموطيقي بالنص الإغريقي. استعان يونج ببعض الكتابات الهيروغليفية الأخرى، وخلص إلى مجموعة من النتائج المهمة، ومنها أنه عرف حرفين من حروف الهجاء في الهيروغليفية. وتأكد أن الحلقات الدائرية التي كانت تضم بعض الكلمات -والتي ستُعرف فيما بعد باسم الخراطيش- هي علامات تضم أسماء الملوك والملكات. عرف يونج أيضًا أداة التأنيث في اللغة الهيروغليفية.

دخل شامبليون على الخط في سنة 1806. أرسل العالم الفرنسي الشاب إلى أخيه الأكبر في هذه السنة ليخبره: “أريد أن أقوم بدراسة معمقة ومتواصلة لهذه الأمة القديمة (الأثرية). يملَؤني الحماس، الذي قادني إلى دراسة آثارهم وقوتهم ومعرفتهم، بالتقدير، سيكبر كل هذا إلى ما هو أبعد من ذلك إذ سأكتسب تصورات جديدة. من بين كل الأشخاص الذين أفضلهم، سأقول بأنه لا أحد عزيز على قلبي كالمصريين”.

قام شامبليون بمراسلة توماس يونج، واستفاد كثيرًا من النتائج التي توصل لها العالم الإنجليزي. عرف العالم الفرنسي في الوقت ذاته أن اللغة القبطية التي يستخدمها المسيحيون المصريون من الممكن أن تفيده في فك أسرار نقوش حجر رشيد. تعرف شامبليون على كاهن قبطي يدعي “يوحنا الشفتشي” في كنيسة سان روش بفرنسا، ودرس عليه اللغة القبطية. أرسل شامبليون إلى شقيقه الأكبر في سنة 1809م ليخبره بأهمية اللغة القبطية. قال شامبليون في تلك الرسالة: “إني متفرغ تماما للغة القبطية؛ أريد أن تكون درايتي بهذه اللغة كاللغة الفرنسية تمامًا لأن عملي الضخم عن البرديات المصرية سيقوم على أساسها. وأنا لغتي القبطية تتحسن باستمرار وأجد في ممارستها سعادة كبيرة حقًا إذ يمكنك أن تتخيل ان سعادة الحديث بلغة أمينوفيس ورمسيس وتحتمس لا يمكن ان تكون صغيرة. أما عن اللغة القبطية فأنا لا أفعل شيئًا آخر فأنا لا أحلم إلا بالقبطي. ولا أفعل غير هذا…”، وذلك بحسب ما يذكر جان لا كوتير في كتابه “شامبليون؛ حياة من نور”.

توصل شامبليون بعد ستة عشر عامًا من الدراسة والبحث والتنقيب إلى فك رموز حجر رشيد كما نعرفها اليوم.

ظهر تأثير معرفة شامبليون بالقبطية في الرسالة التي بعث بها إلى المسيو داسييه السكرتير الدائم في جمعية النقوش والآداب الفرنسية. ذكر شامبليون في تلك الرسالة أنه حلل الخانة الملوكية -الخرطوشة- التي أكد يانج من قبل أنها احتوت على اسم بطليموس. فكك العالم الفرنسي الكلمة إلى حروف الباء، والتاء، واللام، والميم، والسين. وقارن تلك الحروف بما ورد في الخانات الملوكية الأخرى التي وردت فيها كلمات كليوبترا والإسكندر. تأكد شامبليون عندئذً أن الصيغ اللغوية الهيروغليفية تتوافق مع مثيلتها في اللغة القبطية.

يذكر زاهي حواس في كتابه “شامبليون: خطوات على أرض مصر” أن شامبليون تمكن من إدراك التشابه القائم بين القبطية والهيروغليفية عندما عرف أن كلمة “مس” بالهيروغليفية تعني ولد بالقبطية، كذلك عرف أن علامة الشمس في القبطية تعني رع. عرف شامبليون أن اسم رمسيس الذي ظهر في النص اليوناني يقرأ بالخط الهيروغليفي “رع هو مسو”. عرف بالطريقة نفسها أن الملك تحتمس الوارد في الخراطيش هو الطائر الذي يرمز لتحوت إله الحكمة. من هنا، فإن تحتمس مشتقة من كلمتي تحوت مس.

توصل شامبليون بعد ستة عشر عامًا من الدراسة والبحث والتنقيب إلى فك رموز حجر رشيد كما نعرفها اليوم. وفي 27 سبتمبر عام 1822، وقف العالم الفرنسي وسط اجتماع حضره أعضاء أكاديمية العلوم الفرنسية بباريس، وقرأ خطابه الشهير الذي تضمن نتائج أبحاثه الطويلة في تفسير رموز اللغة المصرية القديمة.

أين هو حجر رشيد الآن؟

احتفظ المتحف البريطاني بحجر رشيد منذ وصوله إليه هدية من الملك جورج الثالث سنة 1802 وحتى اللحظة. وهو الأثر الأكثر زيارة من جانب الرواد والزائرين. طالبت مصر بعودة الحجر إليها في فترات مختلفة. قوبل هذا الطلب بالرفض القاطع بدعوى أن الحجر ملك للمتحف.

تجدد الجدل حول هذا الأثر المهم في 2009، عندما اقترح رئيس المجلس الأعلى للآثار الأسبق زاهي حواس أن تتنازل مصر عن مطالبة المتحف البريطاني بإعادة حجر رشيد إلى مصر في حالة موافقة المتحف على السماح بعرضه هناك لفترة محددة. رفض المسؤولون عن المتحف البريطاني هذا الطلب عندما “طرحوا تساؤلات تتعلق بضمانات عودة تلك التحف إليهم مرة أخرى”. وهكذا بقي الحجر في بريطانيا إلى اليوم.

احتفظ المتحف البريطاني بحجر رشيد منذ وصوله إليه هدية من الملك جورج الثالث سنة 1802 وحتى اللحظة.

لكن حجر رشيد ليس وحده، هناك عشرات الآلاف من القطع الأثرية المصرية المنهوبة وجدت طريقها لمتاحف أوروبا والولايات المتحدة. يأتي تمثال رأس توت عنخ أمون وتمثال رأس نفرتيتي على رأس تلك القطع. بالإضافة لعدد من المسلات التي تزين ميادين باريس، ونيويورك، وروما ولندن.

 

  • Beta

Beta feature

  • Beta

Beta feature

  • Beta

Beta feature

  • Beta

Beta feature

Comments

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *