قراءة هادئة على الضفاف بعيدا عن الموج
في التاريخ فقط، تتمكن الأمم والشعوب من وعي ذاتها بشكل صحي، وهذا يتطلب قراءة تاريخها كما هو بدون رتوش وعمليات تجميل، ويتطلب أيضا غوصا في تفاصيل الحياة لمعرفة ذلك المنعطف الذي أدى للطريق الخطأ.
هذا ما خطر لي وأنا غائب ملء الوعي عن شوارده من كل ما يحدث في العالم، منهمكا بإعادة قراءة لواحد من أكثر الشخصيات الشامية التي بهرتني منذ صباي بلطفها وطرافتها ونضالها التنويري مع بساطة وتواضع تجعله رجلا عاديا ترك خلفه تراث غير عادي.
أتحدث هنا عن فخري البارودي، الزعيم السوري وكبير دمشق ووجيهها والذي ولد في حي القنوات الدمشقي بقصر العائلة المعروف، وهذا يعكس أصوله الأرستقراطية، والتي لو تتبعها أي مهتم بعلم الاجتماع السياسي لوجد أن جده الأعلى مباشرة هو ظاهر العمر، ملك الجليل الذي كان فعليا بحد ذاته أول ثورة ضد الاستعمار العثماني لبلاد الشام.
بالنسبة لي، تلك معلومة لافتة ومهمة ترسم بوضوح العلاقات الاجتماعية في منظومة بلاد الشام أو سوريا الكبرى فيصبح حفيد ملك الجليل مثلا، زعيم دمشق المتوج شعبيا.
في سيرة حياة فخري البارودي المتخمة بالأحداث والمنعطفات والمفاصل أنتبه إلى تفاصيل كثيرة تحمل في داخلها قراءات مهمة لا يمكن العبور عنها بدون توقف.
لكن سأتوقف عند 3 مفاصل مهمة في سيرة حياة الرجل بكل تفاصيلها:
1 ـ الموقف الحازم والتقدمي بتحرير المرأة، وقد ألف زعيم دمشق في ذلك كتابا عام 1934 (تخيلوا معي كم هو مبكر هذا الزمن) وعنونه بفصل الخطاب بين السفور والحجاب، ودعا فيه علانية المرأة السورية المشرقية إلى التحرر من سلطة العادات والتقاليد الدينية، وحثها على التعليم منوها أن المرأة حين تتعلم تنهض بالمجتمع.
نحن هنا أمام رجل سياسة وثقافة ووجه من وجوه سورية المعروفين يتحدث في ثلاثينيات القرن العشرين بصراحة عن سفور المرأة كخطوة إيجابية في مواجهة التغييب والتعمية والجهل.
وتلك كانت إحدى معاركه الشرسة مع التيارات الدينية والمحافظة التي واجهها فخري البارودي بالجدل والطرافة والمحاججة.
أقارن معركة الرجل (ومعاصريه) في تلك القضية التي يتم عمدا إخفاء حقائقها التاريخية عبر إنتاج بصري مكلف وباهظ للدراما التي تصور المرأة في البيئة الشامية في ذلك الزمن نموذجا عن شخصية “أم عصام” في المسلسل البائس والشهير للأسف، “باب الحارة”.
ثم أقارنه، بمن يطرحون أنفسهم بالشخصيات التنويرية في زماننا المعاصر، وقد أحبوا لقب “نسويين ونسويات” فأتأسف على تلك الشجاعة في الطرح التي حملها البارودي لا بقصد خوض معارك وحسب لغايات الظهور، بل لخوضه معركته الفكرية التي آمن بها لصالح مجتمعه، بدون أي شبهة تمويل تكسر صفاء الفكرة.
لقد كانت فكرة البارودي أصيلة منبثقة من المجتمع الشامي الضيق، والمجتمع السوري الكبير المتنوع، وهي فكرة تحمل آخر بقايا مناهضة التصحر الوهابي المتوغل في الأطراف السورية منذ القرن التاسع عشر.
2 ـ التوقف التالي كان عند منهجية الرجل في السخرية والظرف كأداة يخوض بها مجمل معاركه، وتلك من أذكى الأدوات التي يمكن استخدامها ما دامت لا تهبط إلى التهريج أو التفاهة.
وفي زمن السخرية والكاريكاتير الذي صار جزءا من صراع الحضارات المجنون، أقرأ أن زعيم دمشق أحد أكثر وجوهها وقارا في التاريخ الحديث كان قد شارك في تأسيس مجلة ساخرة اسمها “حط بالخرج”، وكتبها وحررها مع مجموعة من الكتاب باللغة الشامية المحكية وسخر فيها من السلطة والفرنسيين والعثمانيين، ورجال الدين، وهذا المشروع ـ وتلك مفاجأة ـ كان في عام 1909، يعني في ظل السلطة العثمانية الاحتلالية، وقبل الثورة العربية على ذلك الاحتلال، ومع ذلك، لم يخرج متطرف مهووس بقطع رأس البارودي آنذاك.
3 ـ التوقف الأخير والأكثر لفتا في تفاصيله كان في عام 1949، حيث توجه فخري البارودي العاشق للموسيقى والطرب إلى أصدقائه من أثرياء دمشق، لينفقوا على تأسيس “النادي الموسيقي الشرقي” والذي اتخذوا له مقرا في حي ساروجة العريق في دمشق، وبالتعاون مع من يعرفهم من موسيقيين تعاقد البارودي بعقود احترافية مع أساتذة موسيقى (منهم من جلبه من النمسا)، ثم وظف نفوذه الاجتماعي والسياسي في حكومة الرئيس شكري القوتلي ليحصل على بند نفقات في موازنة وزارة المعارف، فكان ذلك أساس ونواة “المعهد الموسيقي” في سوريا.
اللافت جدا أن المشروع التقدمي المذهل تعرض للإجهاض الممنهج، لا على يد سلفية دينية متطرفة (وكان وجود هؤلاء لا يذكر في حياة السوريين)، بل على يد مؤسس حزب البعث ما غيره: ميشيل عفلق والذي كان أيامها قد تولى منصب وزير المعارف في الحكومة السورية، فقام في نهاية عام 1949 بشطب بند الإنفاق على النادي الموسيقي من الموازنة لأنه رأى فيه إسرافا ونفقات غير مجدية!
♦♦♦
ما الفكرة من هذا المقال؟ وما هي الخلاصة فيه؟
في خضم الجدل المجنون والذي وصل في بعض مفاصله إلى نقاشات مسعورة غاب فيها وعنها العقل، بعد أزمة اغتيال المعلم الفرنسي البشعة، آثرت شخصيا أن أعود إلى قراءات تاريخية واجتماعية في تاريخ المنطقة، وهالني ما خرجت به من مقارنات بين عصر التنوير الحقيقي في زمن ما قبل ثورة تكنولوجيا المعلومات، و”التنويريين” في مشرقنا العربي في زمن الثورة المعرفية في التكنولوجيا.
لقد كانت بداية انحطاط المشرق العربي الحقيقية تكمن بين فكي كماشة، الأولى هي تمدد التصحر الوهابي القادم بكل ما يحمله من تطرف وجهل وإقصاء، والثانية كانت في العسكرتاريا التي اتخذت من الشعارات الرنانة والجوفاء منهجية لا تقل تطرفا ولا جهلا ولا إقصاء في سبيل بسط سلطتها بأي ثمن.
لقد قتلنا نخب التنوير المحلية الخاصة بمجتمعاتنا و “هوياتها” المحلية.. فقتلتنا الردة، وصار الواحد فينا ـ فعليا ـ يحمل في الداخل ضده.
♦♦♦
وفي استطراد هو تأمل أكثر منه دراسة متخصصة في الشعر والبلاغة:
فإن فخري البارودي هو نفسه صاحب النشيد الأكثر شهرة وقد رددناه ببلاهة طويلا في طوابير الصباح والمساء، ومطلعه: بلاد العرب أوطاني.
وبعد قراءة “تأملية” في النشيد لأول مرة في حياتي أكتشف عمق الفكرة عند البارودي حين يقول: لسان الضاد يجمعنا… بغسان وعدنان.
الرجل يقول ببساطة أن لا شيء يجمعنا بغسان وعدنان إلا لسان الضاد: اللغة.
وهذا ـ حسب قراءتي الشخصية ـ طرح لحالة كومنولث نادرة تجمع الناطقين بالعربية، وليس نداء لوحدة قومية ساذجة تجمع ما لا يمكن جمعه من الخليج ـ إياه ـ إلى المحيط ـ ما غيره ـ فأسسنا عليها كل خيباتنا من تاريخه حتى اليوم.
اترك تعليقاً