قلعة حمص … مدينة ملكية دفاعية مصغرة
أول مايبدو للقادم نحو مدينة حمص السورية ذلك التل الجاثم في مدخلها بجلال وروعة متسامقاً يشد الناظر رغم كل صروح الحضارة العمرانية الحديثة التي كانت بجواره قبل أن تسوّيها قوات النظام بالأرض، وما ذاك التل سوى قلعة حمص التي تعتبر من أهم المعالم الأثرية والتاريخية في المدينة بلا ريب.
تقع قلعة حمص في الجهة الجنوبية الغربية من المدينة. وقد شيدت فوق تل يرتفع عن البحر 533 متراً، ويرجح أن أسفل التل طبيعي صخري وأعلاه صناعي، وهو على شكل مخروط ناقص، محيطه في الأسفل نحو 900 متر وارتفاعه عن سطح الأرض المحيطة به ثلاثين متراً، وسفحه الشمالي الملاصق للمدينة شديد الانحدار يكاد يكون عامودياً، وكانت القلعة في الماضي تبدو على غرار القلاع الأيوبية والمملوكية المبنية في القرنين الثاني عشر والثالث عشر للميلاد، والتي تعتبر قلعة حلب أفضل نماذجها المتبقية، تعلو منحدرها الذي يحيط به الخندق أبراج مربعة وكأنها مدينة ملكية، ما زال أحدها في الشمال الشرقي متكاملاً في مظهره الخارجي.
اقدم موقع للسكن في حمص
يعتقد الكثير من المؤرخين وعلماء الانثربولوجيا أن أقدم موقع نشأ فيه السكن في حمص هو تل حمص (مكان القلعة الحالي) وأثبتت الدراسات التي أجريت على اللُقى الفخارية السطحية المكتشفة في الطبقات الدنيا من التل، أن الموقع كان مأهولاً في النصف الثاني من الألف الثالثة قبل الميلاد، والتل الحالي التي تتوضع القلعة عليه يفترض أنه يدفن ضمن طبقاته حمص القديمة قبل توسعها خارج حدود التل إبان العصر الروماني، وأن الخندق المحيط بالتل كان ضمن النظام الدفاعي للمدينة لأنها كانت تتعرض لغزوات البداوة والرعاة. ومع غزو الرومان لمدينة حمص ووصول (جوليا دومنا) ابنة كاهن معبد الشمس إلى عرش الإمبراطورية الرومانية اتسعت حمص من سور دائري حول التل إلى مدينة لها شكل المستطيل (1400 –999) ق. م وخضعت للمخطط الكلاسيكي للمدن الهلنستينية الرومانية، وفي الفترة الممتدة من نزول السكان من التل وحتى انتشار المسيحية أخذ تل حمص ينفرد بكونه مكاناً لعبادة مقدسة في شكل (أكروبول) للمدينة الجديدة (المركز الإداري والديني للمدن القديمة) فقد ضم معبداً لإله الشمس الأسطوري الذي دعاه الحمصيون (ايلاغابال).
وقد تأكد قيام المعبد على التل عندما عثر على حجر من الصخر الكلسي القاسي ارتفاعه 57 سم وضلع قاعدته 30 سم وقد نقش في وسطه بالخط اليوناني القديم مايلي: (تقدمة من مايدولس بن غولاسيس) أي إله الشمس (ايلاغابال)هذا المذبح مشكوراً ولكن بعد انتشار المسيحية والقضاء على الوثنية بدأ التل يتحول وخاصة في العصر البيزنطي إلى قلعة عسكرية.
مدينة ملكية مصغرة
تبدو قلعة حمص من الداخل وكأنها مدينة ملكية مصغرة فيها دور السكن والمستودعات والمسجد وكل مايلزم الإقامة والدفاع للحاكم وحاشيته وحامية للقاعة وتدل الكتابات المنقوشة على البرج الشمالي أن من بناها هو أسد الدين شيركوه وثمة نص منقوش على حجر يقول (أمر بعمارته شيركوه بن محمد في سنة 594) ويبدو أن شيركوه هو أكثر من حصّن القلعة، واهتم بها بسبب طول مدة حكمه التي امتدت إلى 45 عاماً، ويقول ابن نظيف الحموي عند الكلام عن أحداث سنة 624 للهجرة، “وفيها شرع السلطان الملك المجاهد صاحب حمص في حفر خندق القلعة وتوسيعه وحصانته لأنه من الثغور الإسلامية المندوب إلى حصانتها وقد كانت قلعة حمص أيضاً قبل ذلك مترجلة صغيرة فعلاها وكبرها وحصنها”.
وقد اشتهر مسجد القلعة الذي دعي أيضاً مسجد السلطان لاحتوائه على نسخة من المصحف العثماني الذي أرسله عثمان بن عفان إلى حمص وظل هذا المصحف محفوظاً في جامع القلعة حتى خاف الناس عليه من الفقدان فنقلوه إلى جامع خالد بن الوليد وبقي فيه ردحاً من الزمن إلى أن استولى عليه جمال باشا السفاح ونقله إلى القسطنطينية.
القلعة والصومعة
في فترة العثمانيين تضاءل دور القلاع ونظراً لاكتشاف الأسلحة النارية وخاصة المدفعية التي اعتمدها العثمانيون، ولكن قلعة حمص ظلت مركزاً استراتيجياً لترييض مدافع الحامية، وفي هذه الفترة شُق المدخل الحالي للقلعة من الغرب وذلك لسحب المدافع إليها، وأذاقت مدافع القلعة الحملة المصرية بقيادة إبراهيم باشا الويلات فقرر فور دخوله حمص تخريب منشآت القلعة وأمر بأن تنزع الطبقة البازلتية من على سطوحها لتُستخدم في بناء المستودع العسكري (الدبويا) وهي كلمة محرفة عن الفرنسية وتعني المستودع – وأكملت بلدية حمص عام 1911 أي في عهد رئيسها إبراهيم الأتاسي المهمة عندما قامت باقتلاع ما تبقى من أحجار البازلت من سفوح القلعة وشيدت بها مخازن في القسم الشرقي من الصومعة التي أتُخذت مستودعاً للمحروقات السائلة – “كازخانة”، ولا تزال هذه المخازن قائمة حتى اليوم، وهكذا نشأت التقليعة الشعبية في ذلك الوقت (ركبت القلعة على الصومعة).
اكتشاف وترميم
من معالم القلعة المغارة الكبيرة التي يتجه مدخلها نحو الجنوب، وعلى سويّة أرض الخندق بعرض وسطي قدره 15سم، وبعمق 75 سم وهي كهف طبيعي في أساس التل ربما لم يكن موجوداً في الماضي، أو أنه كان أصغر من ذلك وكُشف بإزالة التصفيح وتوسع بهدم جدرانه الكلسية لاستخدامها في صنع الكلس. وفي أعلى القلعة فسحة منبسطة قام الفرنسيون بتسوية أرضها وهدم ما تبقى من مبانيها بدليل أن سويّة الأرض تناسب تماماً أرضية المباني الفرنسية التي لاتزال محافظة على وجودها، ومن الخارج نجد أن القلعة قد ردم خندقها وفقدت تصفيحها عدا بعض المناطق التي لاتزال تحتفظ بطبيعة التصفيح الداخلي (البطانة) وتهدمت أسوارها جميعاً.
وقد تم كشف أساسات قسم كبير من الأسوار. كما كشف عن الباب الشمالي الشرقي وهو الباب الأساسي للقلعة ومدخله يماثل مدخل قلعة حلب، كما رمم البرج الشمالي عام 1952 واكتشف في القلعة صهريج بعمق 27 متراً مكون من بضعة طوابق لها أدراج طول ضلع مربعه 5 أمتار ويعتبر من الفن المعماري الأيوبي النادر.
منبت الحظوظ
في أواخر العهد العثماني تحولت وظيفة القلعة الدفاعي لتصبح مكاناً لاحتفال طريف هو (خميس النبات) أوخميس القلعة، إذا كان الناس يتقاطرون إليها من كل مكان ويتجمعون على سطحها فيتدافعون حول بئر واسعة قديمة، ويتنافسون على قذف الحجارة في جوفها ثم ينصتون لسماع أصوات ارتطامها في القاع، فإذا تركت دوياً وطنيناً كان صاحبها ذا حظ رائع –يفلق الصخر- وإذا لم يُسمع أي صوت دل ذلك أن حظه أو حظها هامد خائب، ذلك أن البئر هي (جب البنات) حيث تنبت الحظوظ كما يقولون- وكان خميس القلعة هذا يعقد بعد زوال الشمس وجنوح النهار إلى الأصيل فتتقاطر على القلعة جموع النساء والصبيان والفتيات يتجمعون عند سفحها الغربي فإذا ضاق بهم المكان توغلت النسوة في الجبّانات المجاورة.
وبقيت هذه العادة حتى دخول الفرنسيين إلى حمص صباح 28 تموز/ يوليو عام 1920 واتخاذهم من القلعة موقعاً عسكرياً فَحيْلَ بين الناس وبين الصعود إلى القلعة لاختبار حظوظهم، وبعد أن أقام الفرنسيون حامية عسكرية شيدوا بعض الأبنية فيها كما وسعوا المدخل الغربي ورصفوه لتحرك آلياتهم، وحظروا الأهالي من الاقتراب منها وغدت القلعة مصدراً للموت والدمار عندما قصفت الحامية مدينة حمص بالمدفعية وقامت بعمليات قنص للسكان في الشوارع وداخل البيوت كرد فعل على الثورات السورية في 29 أيار- مايو 1945 كما يفعل النظام السوري اليوم وكأن التاريخ يعيد نفسه.
خالد الأحمد / زمان الوصل
Beta feature
اترك تعليقاً