من ظهورات السيد على التلاميذ في الاربعين يوما بعد قيامته

ماذا كان يفعل الرسل الأطهار في الاربعين يوماً التي تلت القيامة المجيدة

ماذا كان يفعل الرسل الأطهار في الاربعين يوماً التي تلت القيامة المجيدة

ثم يظهر يسوع،  مرة أخرى في وسط التلاميذ المجتمعين والأبواب مغلقة، ونحن في جهالتنا الحاضرة لا نقدر أن نتصور ماهو التغيير الذي طرأ على جسد المسيح الناهض من بين الأموات.

ومع كل ذلك فها هنا شيء من السر قد استُعلن. فالأبواب الموصدة والجدران السميكة والعوائق التي في وسعها أن تقف حاجزاً منيعاً في وجه من يريد ان يصل الى حيث كان التلاميذ، لم تستطع الصمود في وجه السيد، وها هو يظهر فجأة أمامهم، والتلاميذ الذين كانوا منهمكين في التحدث عن المعلم وعما كان يقوم به من اعمال، وكيف انه ظهر لمريم ولم يظهر لهم، جزعوا وخافوا وظنوا انهم يرون روحا_ غير أن السيد له المجد لم يدعهم في حيرتهم، ولم يبقهم في اضطرابهم، بل عزاهم وطيب خواطرهم واراهم انه هو هو قد اتخذ شكلاً جسمانياً، لامعاً، معروفاً لو انه لم يعد خاضعاً للشروط والأحكام الأرضية.

وهكذا نجد ان السيد له المجد في كل المرات التي ظهر فيها إن لبعض التلاميذ، وإن للتلاميذ جميعهم وهم مجتمعون، يرى ويعرف متى شاء وكيف شاء. يظهر في وسط التلاميذ دون أن يراه احدٌ قادماً، يظهر فجأة، وفجأة يختفي عن الأنظار، يقول لبعض التلاميذ انه ذاهب الى الجليل، فينطلقون معتقدين انه لابد من ان يوافي الى حيث  كانوا ويذهب معهم في الطريق، ولكنه لايسير معهم، وعندما يصلون الى المكان الذي عينه لهم، يظهر بغتة في وسطهم.

وماذا نقول عن ظهوره في وسط التلاميذ عندما وقف يخاطب توما المرتاب الا نستدل من حديثه على انه كان بينهم عندما قالوا لزميلهم توما قد رأينا الرب؟

ظهورات السيد للتلاميذ وقال لتوما هات يدك والمس اثر المسامير ولاتكن غير مؤمن بل مؤمنا
ظهورات السيد للتلاميذ وقال لتوما هات يدك والمس اثر المسامير ولاتكن غير مؤمن بل مؤمنا

اليس قوله لتوما هات يدك وضعها في أثر المسامير ولاتكن غير مؤمنٍ بل مؤمناً، دليلاً قاطعاً على انه كان بين التلاميذ عندما تفوه توما بما تفوه به؟ ان السيد له المجد بحضوره المفاجىء بين التلاميذ، بتحدثه اليهم، كان يرغب في توطيد ايمانهم، وتقوية اليقين في نفوسهم، ليكونوا واثقين أشد الوثوق مما سيعلمون به الناس، عندما سينطلقون الى الكرازة باسمه.

وكلما انقضى يوم من هذه الايام الأربعين، ازدادوا يقيناً بأن السيد له المجد قد قام من بين الاموات حقاً، وتتعمق فيهم أحاسيس الروعة والاستغراب انه لم يعد خاضعا للحاجات البشرية، ولا مقيداً بنواميس الطبيعة. ويظهر ان السيد كان يرتاح جداً ويغتبط باللجوء الى بيت عنيا التي كان يقيم فيها لعازر الذي انهضه من الاموات، ذلك  قبل آلامه الخلاصية- اما الآن بعد القيامة فقد تبدلت الحال، ولم يعد السيد في حاجة الى مأوىيلجأ اليه ويأخذ فيه قسطاً من الراحة. لقد امضى السيد له المجد اربعين يوما من بعد قيامته المجيدة متجولاً في غير موطن ارضي،وان كان التلاميذ يرونه بينهم على هذه الأرض. فتأصل في نفوسهم يقين ثابت  بأن ” المعلم” يعيش في غير الشكل الذي كان يعيش فيه عندما كان يتجول في انحاء الجليل “يشفي كل مرض وكل سقم في الشعب” يكرز ويعلم ويناقش معلمي الناموس ويسفه آراءهم ويندد بتزمتهم، الذي به يبعدون المؤمنين عن الايمان – ان “المعلم” الآن اسمى وارقى مماعرفوه عندما كان يأكل مع العشارين والخطأة، ” لأني ماجئت لأدعوا الأبرار بل الخطأة الى التوبة”.

لقد احس التلاميذ ان ” المعلم ” يختلف عما كان ومع ذلك فهو بعينه كما كان محتفظاً بخواص صوته وأخلاقه، وتلك الاشارات الصغيرة التي تميز الانسان عن سواه، ومحتفظاً بذلك القلب الذي ينبض بالحب والحنان والشفقة ليس للتلاميذ وحدهم بل لجميع الناس، ولاسيما المعذبين منهم، الرازقبن تحت ثقل كابوس الخطيئة، وتبكيت الضمير، الذي لايدع لهم فرصة ليرتاحوا فيها من وخزات سنانه.

ان محبة السيد لتلاميذه لم تضعف عما كانت عليه بل ظلت قوية دون ان يعتورها تبديل أو تغيير. لقد بقيت الذكريات حية، وهاهو في الاربعين يوماً التي انقضتْ، يعاود الحديث  عنها، وكأنها لاتزال ماثلة امامه. وكأن الأيام الثلاثة التي قضاها في عالم الراقدين لم تؤثر فيه شيئاً. لقد قال السيد لتلاميذه” وبعد ان اقوم سأسبقكم الى الجليل” وهو الآن يقول : ” اذهبا وقولا لاخوتي ان يذهبوا الى الجليل هناك يرونني حقاً كما قلت لكم”.

الم يقل لتلاميذه” الروح القدس يحل عليكم” وهاهو الآن يأمرهم بالبقاء في اورشليم حتى يكمل هذا الوعد الذي اخبرهم به، ذلك لأن الصلة بين الحياة القديمة والحياة الجديدة لاتزال قائمة لم تنفصم عراها.

وهكذا كان الحال في معاجة شؤون الناس. ونحن نعرف تلك الطريقة التي اتخذها في تدريب بطرس.

لقد قال لبطرس ليلة العشاء الأخير انك ستنكرني ثلاث مرات قبل ان يصيح الديك. وقد تم الانكار فعلاً ولكن السيد لم يشأ ان يدع بطرس يستسلم الى تبكيت ضميره، ولم يرد أن يجعل لليأس سبيلاً الى قلبه. فلننظر الى تلك الرسالة الشفوية المؤثرة التي عهد في إيصالها اليه الى مريم المجدلية: اذهبي وقولي للتلاميذ وليعلم انني قمت من بين الأموات فليذهبوا الى الجليل وهناك يرونني حقاً.

لقد خص السيد له المجد بطرس بعناية خاصة- ذلك لأن بطرس انكره ثلاث مرات، وقد يكون قد جال في خاطر بطرس، ان لارجاء له بعد ذلك الانكار، وان تلك الدالة التي كانت له عند السيد قد زالت ولم تبق له أقل ميزة على غيره- لقد كان بطرس كما نعلم متهوراً شديد الاندفاع ولكنه لم يكن متروياً- غي ان السيد له المجد عندما ظهر لتلاميذه قال لبطرس ثلاث مرات اتحبني يابطرس؟ وكان جواب بطرس انت تعلم ياسيدي انني احبك – وقد فهم بطرس من تكرار الأسئلة ان السيد يريد ان يذكّره بانكاره ولكن لا ليبكته ويؤنبه، بل ليستأصل مايمكن ان يكون قد علق بذهنه من اليأس او القنوط – هكذا روّض السيد بطرس ودربه ليكون مستعدا للسير في الطريق الشاق الذي كان مزمعا ان يسير فيه.

وماذا نقول عن تدريبه لتوما: لقد كان توما مرتابا، ولم يصدق ماقيل له عن قيامة السيد. انه لايؤمن قبل ان يعاين، لايقتنع بما سمع بل يريد ان يرى أثر الجرح في جنب السيد واثر المسامير في يديه ورجليه – غير ان السيد لم يشأ ان يدعه في شكه وارتيابه وهاهو يقف وسط التلاميذ وتوما معهم ويلقي عليهم السلام ، ويطلب من توما ان يتقدم ويضع يده على اثر الجرح الذي في جنبه وعلى اثر المسامير التي غرست في يديه ورجليه، وبكل لطف يقول له لاتكن غير مؤمن بل مؤمناً.

لقد انب توما برفق، ولم يقسُ عليه، وتوما قدر المسؤولية التي القيت على عاتقه وقام بالمهمة خير قيام . وهكذا نرى ان الاربعين يوماً التي قضاها التلاميذ بعد القيامة، كانت من اخصب الايام ثمراً في تعليمهم – لقد ادركوا ان زميلهم الذي كان يجالسهم ويؤاكلهم ويتحدث اليهم ويسألونه عما يعسر عليهم فهمه فيجيبهم عما يسألون،  لم يبق كما كان قبلاً، لقد اتخذ شكلا ارقى من اشكال الوجود السابق. ان في وسعه الآن ان يراهم دون ان يروه، وان يدخل اليهم والأبواب مغلقة دون ان يقوم احدهم بفتح الباب له – لقد زالت تلك الصلة الزمنية التي كانت تربطه بهم وتربطهم به، وحلت محلها شركة روحية أبدية – الم يقل لهم – حيثما اجتمع اثنان او ثلاثة باسمي فأنا اكون بينهم؟ ستفرق تلاميذه واتباعهم في جميع انحاء العالم ليكرزوا بالانجيل، وهو يكون معهم اينما ساروا وحيثما حلوا، يشدد ايمانهم، ويقوي عزائمهم ليمضوا في غير توانٍ في دعوة جميع الناس على اختلاف مللهم ونحلهم الى الايمان به، ونبذ المعتقدات الوثنية ، ليصبحوا جميعا ابناء كنيسة واحدة جامعة مقدسة رسولية.

لقد تأصلت الأمثولة هذه في نفوسهم، ولذلك نراهم غير جذعين لفراقه المنتظر – وقصة الصعود الالهي اقوى دليل واصدق برهان على مانقول – لقد ذهب التلاميذ الى جبل الزيتون كما امرهم الرب، وبعد ان شاهدوه واستمعوا الى حديثه رأوه صاعدا الى السماء، فلم يجزعوا ولم يجد اليأس سبيلاً الى قلوبهم – لم تصبح الأرض قفراً بلقعاً في عيونهم، ولم تفارقها البهجة، ولم تبد على وجوههم امائر الوحشة والاضطراب – لقد وعدهم الرب بارسال المعزي روح الحق الذي من الآب ينبثق  الذي سيشهد له، وسيحل فيهم، وينير أذهانهم فيصبحون أقوى من فلاسفة العالم الزمني، وينطقون بآيات الله وعجائبه، حتى ليحار في امرهم السامعون الى احاديثهم، والعارفون بكا كانوا عليه وماصاروا اليه.

لقد صعد الرب الى السماء، وعاد تلاميذه جذلين الى اورشليم، لأنهم تعلموا دروساً نافعة خلال الاربعين يوماً التي قضوها بعد القيامة، وهم مؤمنون بما سمعوه منه – الم يقل لهم وسأكون معكم الى انقضاء الدهر؟ فكيف يعقل ان يحزن التلاميذ بعد هذه الوعود التي سمعوها؟ كيف يمكن ان يرتاب التلاميذ غي مصيرهم وقد وعدهم السيد بارسال المعزي روح الحق الذي سيحل عليهم.

خلاصة ماتقدم

والآن بعد ان استعرضنا الحوادث التي رافق حدوثها التلاميذ ، وبعد أن حاولنا استخلاص بعض المقاصد التي ارادها السيد له المجد، السنا نرى لنفوسنا شيئاً من امثولة الأربعين يوماً التي تلت قيامة السيد من بين الاموات؟

الا يمكننا ان نستشف بعض التلميحات عن الحياة المرتقبة لبني البشر؟

الا نستطيع ان نستخلص من ظهور السيد الناهض من بين الاموات، ان من  اخواننا واقاربنا وممن عرفناهم الى الانتقال من دار الحياة الدنيا الى الابدية، واننا نحن عندما نفارق هذه الحياة سنبقى وسيقون رجالاً ونساء كباراً وصغاراً، صالحين وغير صالحين، مؤمنين ومشككين، وسنختلف ايضاً عما كنا ؟ ان حياتنا لاتشطر شطرين بل ستتجلى في صورة ابهى ومظهر اجمل، ولن نفقد شخصياتنا وذاكرتنا ومحبتنا، بل سنبقى كما كنا نعرف ونُعرَفْ، ونحتفظ بمميزاتنا الدقيقة التي تميزنا بها هنا في هذه الحياة الدنيا – بيد اننا سنتمجد اذ ان الدوافع والمرامي التي كانت تحركنا وتهيب بنا الى العمل وتغيير الاتجاهات ستتبدل.

وقد نصيب الهدف ان قلنا اننا في حياتنا تلك التي سنحياها بعد مفارقتنا هذه الدنيا، لن نكون كما كنا ونحن نعيش على هذه الارض.

اننا في هذه الحياة الدنيا نجهل تماما ماسنكون عليه وما سنصير  اليه في الحياة الثانية. وجلَّ مانعرفه عما سننتهي اليه، ان عملنا بموجب وصايا السيد له المجد، اننا في اليوم الأخير سنكون عن يمين السيج وسنسمع صوته المحبوب يقول لنا:

” تعالوا يامباركي ابي رثوا الملك المعد لكم منذ انشاء العالم.”

 

 

  • Beta

Beta feature

Comments

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *