أسبوع الآلام .. أربعاء أيوب ومعاناة السيد المسيح

من الأسبوع العظيم الى الفِصح

من الأسبوع العظيم الى الفِصح

ومضاتٌ فقط لنلتمِسَ شمسَ الأسبوع الذي نَفتَتِحُهُ بالشعانين بعد إحياء لَعازرَ من الموتِ.
في حادثة بَعثِ أليعازر دَشَّنَ المعلِّمُ مَوتَهُ إذْ دَخَلَ الى اورشليم وخَرَجَ الجمعُ الكثيرُ للقائِهِ. سنَخرُجُ نَحنُ من كلِّ وطأَةِ الدنيا لنَلْقَى وَجهَهُ وفي هذا اللقاءِ غَسْلٌ لأَعيُنِنا.
بعد أن تنقضي الشعانينُ نُقيم في كنيستي ثلاثَ ليالٍ ما نُسمِّيهِ صلاة الخَتَن. هذا مصطلَحٌ ارامي – عبري يعني العريس. ونَرسُم ليسوعَ العريسِ صورةً لآلامِهِ ونُقيمها في الكنيسة لنقول إنَّ مَنِ اقتبَلَ منّا، تواضُعَ هذا المَسُوقِ إلى الذَبْحِ تُصبِحُ نفسُهُ عروسةً للمسيح، ولكن هذا يقتضي تشبُّهًا بالسيّد في كلِّ شيء. ونجترئُ على الكلامِ على دخولِنا خِدرَ المسيح لأنَّ حبَّهُ لنا هو زواجُهُ الحقيقيّ مع الإنسان. وهذا سيتحقَّق في دمِهِ يومَ الجمعةِ العظيمة عندما يَرفَعُهُ الخطأةُ على الصليب، ذلك أنَّ كلَّ عرسٍ لا يَتِمُّ إلاّ بالدم.
دخلَ يسوعُ إلى أورشليم وأخذ يُعلِّم. ندَّدَ بالفرّيسيّين تنديدًا واسعًا، شديدًا. ثم حمل السوطَ ليَطرُدَ التجّار من الهيكل. الأسبوع القادم صَعبٌ إذْ كلٌّ منّا مُضطَرٌّ أنْ يَفحَصَ قلبَهُ ليَعرفَ إذا كان من المُنافقينَ او مِن تُجّار الهيكل، وبعد أن يَتعرّى بتوبيخِ يسوعَ لَهُ يُصبِحُ فقط من أحبّائِهِ.
عند ذاك يُجالِسُهُ في العشاءِ الأخير وعند ذاك تَهطُلُ عليه الكلماتُ الجسامُ التي قالها السيّدُ عن يهوذا الاسخريوطي: “ويلٌ لذلك الرجُل الذي يُسْلِمُ ابنَ الانسان. كان خَيرًا لذلك الرجُل لو لَم يُولَد”. السؤال المخيف هو هل انا يهوذا آخَرُ خائنٌ لابنِ البشر بعد أنْ آلفْتُهُ طويلاً ثم حوَّلْتُ وجهي عنهُ لأَلهُوَ بمُغرياتِ هذا العالَم، أَمْ أتناولُ خاشعًا، مكسورًا المخلِّصَ ذاتَهُ بالحُبِّ عمَلاً بقولِ الكتاب: “وفيما هم يأكلون أخَذَ يسوعُ الخبزَ وبارَكَ وكَسَرَ وأَعطَى التلاميذ وقال خُذُوا كُلُوا هذا هو جسدي الذي يُكسَرُ من أجلكم، لمغفرةِ الخطايا. وأخَذَ الكأسَ وشكَرَ وأعطاهُم قائلاً اشرَبوا منها كلُّكُم، هذا هو دمي الذي للعهد الجديد الذي يُهراق عنكم وعن كثيرين لمغفرة الخطايا”.
نحن لا نزال في لُغَةِ الاتّحاد حيث يَنبثُّ في كيانِنا كلِّهِ، أو بتعبيرٍ أبسط في العشاء السرّي هذا يَحُلُّ فينا ونَحُلُّ فيهِ. أبوه الذي نُخطِئُ اليهِ يَنْسَى، عند ذاك، كلَّ خطايانا.
من الأسبوع العظيم الى الفِصح
من الأسبوع العظيم الى الفِصح
في إنجيل يوحنا ذِكْرٌ لعشاءٍ عادي وليس فيه ذكرٌ لتقدمة الخبز والخمر ربّما لأنَّ يوحنّا كان قد تكلّم طويلاً عن خُبْزِ الحياة في موضع آخَر. ولكن بعد الإشارة إلى انَّ يهوذا اشترَكَ في الطعام قال البشيرُ عنهُ: “فلماذا أَخذَ اللقمةَ دَخَلَهُ الشيطانُ، ثم خَرَجَ للوقت. وكان ليلاً”.
كلُّ عشاءٍ يَتِمُّ في اللّيل. ما يَذكره إذًا يوحنّا لا يدلُّ على الوقت. المَعنَى الذي استُدِلَّ عليهِ من السياق أنّ التلميذ دَخَلَ الليلُ قلبَهُ. هذا جزاءً الذين يُنكرون يسوعَ كلٌّ على طريقتِهِ.
في هذا المخاض تتهيَّأُ أُمّةُ اليهود لتَقتُلَ الذي كان منها حسب الجسد، وهي التي أسلَمَتْهُ إلى الوالي الروماني. بعضُ علماء الغرب يقول إنّ بيلاطس هو الذي أَصدَرَ حُكْمَ الإعدام وما قامتْ على مجمع اليهود خطيئةٌ. غير أنَّ هذا المجمع مع الرعاع هُمُ الذين ضغطوا على بيلاطس، وبتأثيرِهِ وخوفِهِ من هياجهم الجماهيري أَعدَمَ السيّد. ليس البحث الحقوقي مفيدًا اليومَ وما البحث في تبرئة فريق ذا معنى فكلُّ خطيئة ارتكبها أَحدُنا قاتلةٌ للمسيح. ولا رجوع عن مسؤولية هذا الذبح الدائم إلاّ بالرجوع إلى وجهِهِ والانضمامِ اليه.
نحن لا نَتحدَّث عن هذه المِيتة إلاّ لكونها مطرح النصر والبِرّ فالقيامة. وقبْلَ أن يتمَّ القتْلُ الفعلي أَسلَم المعلِّمُ نفسَهُ إلى مشيئةِ الآب في البستان. في هذه الصلاة “لتكن مشيئتُكَ لا مشيئتي” وَحَّدَ المُخلِّصُ ناسوتيّتَهُ طوعًا بإرادةِ أبيه وانهارَ الفاصلُ بين اللهِ والبشر، هذا الفاصل الذي أقاموه ليستقلِّوا عن خالِقِهِم ويؤلِّهوا أنفسهم على غرار آدم. كان يسوع هو الوسيط بينهم وبين الله. فلما غرَّبوه عنهم ورفعوه على الخشبة غَفَرَ للقاتلينَ ولنا وبهذا “تَمَجَّدَ ابنُ الانسان وتَمَجَّدَ اللهُ فيه”.
ارادوا استئصالَهُ ولمّا نظر النبيُّ اشعياء إليه َ قبْل ذلك بمئات السنين قال: “لا صورةَ له ولا جَمال فنَنظر إليهِ ولا مَنظَر فنشتهيه”. ولكنّنا الآنَ وبَعدَ ظَفَرِهِ صار هذا الوجهُ كلَّ النور. كذلك قال اشعياء “لكن احزانَنا حمِلَها واوجاعَنا تَحمّلها… وهو مجروحٌ لأجل معاصينا مَسحوقٌ لأجلِ آثامِنا… تذلَّل ولم يَفتَح فاهُ كشاة تُساق الى الذبح وكنَعجةٍ صامتة امام جازّيها فلَم يَفتَح فاهُ”.
هذا لا يزال المشهد أمام كلِّ مؤمنٍ به على رغم فيضِ النور من كلِّ جسدِهِ. ذلك أنّه لمّا أَخَذَ على نفْسِهِ كلَّ أوجاعِنا رَفَعَ عنّا التوجّع، ولكن بقينا نتأمّل في آلامِهِ لنَكُفَّ عن معاصينا ونَذكُرَ أنّ الله اشترانا بثمنٍ عظيمٍ لنَخرُجَ في غفرانِهِ إلى روحيّة النصر. لذلك لا نتفجّعُ لأنّهُ حرَّرَنا من كلِّ فاجعة وأقامنا معه في مَجدٍ لا ينقطع.
إنَّ إيماننا هو انَّ الحياة الإلهيّة الساكنة في جسدِهِ نَزَلَت الى مملكة الموت وأَبادَتْها. لذلك عندما نُريد ان نُعبِّر عن القيامة لا نَرسمه خارجًا من القبر ولكنّا نُصوِّره نازلًا الى الجحيم ومُنهضًا بيدٍ آدمَ وبيدٍ حوّاءَ اي جنس البشر قاطبة من حُكْمِ الموت وأتعابِ الخطيئة ليُجلِسنا معه في السماويّات.
لذلك استطاع صاحب سِفْر الرؤيا أن يقول: “رأيتُ سماءً جديدة وأرضًا جديدة” اي كَونًا ظاهرُهُ كما تعرفونه وحقيقته أنّ الله يراه نورًا ساطعًا من المسيح. وأكمل كاتب الرؤيا: “سيَمسَحُ اللهُ كلَّ دمعةٍ من عيونِهم والموت لا يكون في ما بعدُ لأنَّ الأمورَ الأُوْلى قد مَضَت”.
بالدقّة اللاهوتيّة هذا لن يكتمل إلّا عند المجيء الثاني. ولكن المؤمنين التائبين يذوقون مُسبقًا كُنْهَ هذا. تَكسرِهُم ضعفاتُهم هنا والأهواء ويتجلَّون بآنٍ بمقدار ما يُحبّون بعضُهم بعضًا وليس من حُبٍّ إذا استولَتْ عليهِمِ الشهوة. “بهذا يعرف الجميعُ أنّكُم تلاميذي إنْ كان لكُم حُبُّ بعضِكُم لبعض”. ليس من مضمونٍ للمسيحيّة إلاّ هذه المَحبّة. وهي الفِصحُ الدائم على هذه الأرض والفِصح الأبدي في آخِرِ الأزمنة.
الآن نسير الى الله وفي تعمُّقنا الروحي منذ الآن نسير في الله لكون البَشَرة فينا قد انضمّت الى ناسوتيّةِ المسيح بضيائِهِ وحُبِّهِ.
عندنا هذا هو مركزُ كلِّ شيء ومدَى كلِّ شيء واللهُ يُحِبُّ العالَم بقوّة هذه المَصلوبيّة التي تجعل الدنيا كلَّها محتواةً في قلوبِنا ولكِنْ مُضاءة. نحن الذين اتّكأنا في حضنِهِ كما التلميذ الحبيب في العشاءِ السرّيّ يَرفعنا إلى صدرِهِ لنسمَعَ تلك الكلمات التي لا يَسُوغُ النطقُ بها، لنتكلَّم مثلما تكلَّم ونُصبِحَ واحدًا معه بسبب من عطفِهِ وكرمِهِ وانحنائِهِ على كلِّ ثنيّةٍ من ثنايا كيانِنا. اي نكون في حركةِ العبور اليه كلَّ حين.
هذا هو الفصح الذي هو البدء والمنتهى والنورُ الذي لا يَعروهُ مساءٌ.
المطران جورج خضر

 

Comments

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *