برج صافيتا

كاهن صافيتا… المرحوم الخوري ابراهيم…1798-1892

كاهن صافيتا… المرحوم الخوري ابراهيم…1798-1892

كاهن صافيتا… المرحوم الخوري ابراهيم…1798-1892

توطئة

انطاكية العظمى انجبت عدداً لايقدر ولايحد ولايحصى من القديسين غير المطوبين او الذين نسميهم” قديسون منسيون ” تركوا ذكراً مؤبداً لم تمحوه عاديات الزمان والعواصف اللاايمانية والملحدة التي ضربت بقوة وبطش…فبقي ذكرهم كجذوة النار التي تحت الرماد…حتى يقضي الله ان يعلنهم مجدداً للملأ بفعل بشري كأن تتم كتابة سيرهم ليعرفهم الناس مجدداً، لعل ثمة قرار من الكنيسة مظللاً بالروح القدس يعطيهم الحق بالقداسة…

هنا لدينا سيرة الخوري ابراهيم كاهن صافيتا وقد دفع الروح الكلي قدسه حفيده الخوري ابراهيم ابراهيم كاهن صافيتا في حزيران 1964 لكتابة سيرة جده وطباعتها بكراس وهي بعنوان:

ضريح الكاهن ابراهيم
ضريح الكاهن ابراهيم

” المرحوم الخوري ابراهيم من المهد الى اللحد 1798-1892″

وانا ادرجها كلها بالحرف حفاظاً على النص وموثوقيته فمهما اوتيت من المعرفة ودقة البحث لن اوازي الحفيد في الكتابة عن جده…

كاهن صافيتا… المرحوم الخوري ابراهيم…1798-1892
كاهن صافيتا… المرحوم الخوري ابراهيم…1798-1892
غلاف كراس الكراس الحاوي سيرة خوري صافيتا ابراهيم

– ” كلمة”

تحت هذا العنوان الذي هو مقدمة الكاتب ورد

“بعونه تعالى، ونزولاً عند رغبة الكثيرين الذين يريدون الاطلاع على سيرة الطيب الذكر، والخالد الأثر، والطائر الصيت، المرحوم الخوري ابراهيم كاهن ارثوذكس صافيتا من 1835 الى عام 1892 أضع هذا الكراس، والله من وراء القصد. وإني ما كنت أضع هذا الكراس، وما كنت أكتب سيرته للناس، لولا شعوري بواجب يدفعني للقيام به، نحو جد يشرفني حمل اسمه والقيام بالواجب واجب، نحو كاهن كان قلبه عامر بالايمان، نحو كاهن خبا مصباح حياته وما خبا مصباح ذكره بعد مماته.

الخوري ابراهيم…إنه لاشك كبير كبير.! واي اسم احترام الناس له أكبر، وتقديرهم له أعظم، وإجلالهم له اشد من اسمه المستعذب الخالد؟ إنه اسم يبقى على اشعاعه بعد إنقضاء إحدى وسبعين سنة على غيابه، بينما أرخى النسيان ستائره على غيره من أسماء الرؤساء وأصحاب التيجان، عظماء كثيرون طويت أسماؤهم فلا يُذكرونْ، واسمه باق على الزمن مما بقى الزمن، وما بقى في قلوب الناس توله بقداسة، وإجلال لطهر، واحترام لفضيلة لقد طغى اسمه على اسماء من كانوا في فلكهم دائرين فبأية معجزة أتى؟ وبأي عمل قام؟ وإلى أي شيء دعا؟ حتى كان من أمره ماكان، وحتى أصبح حديثاً على كل لسان. علم الناس ألا يعبدو غير الله فكانت تعاليمه تدخل الآذان بلا استئذان فإذا بالناس تغمر قلوبهم محبة باري الكون، ومحبة الناصري الشهيد.

لقد دعا الى التسامح، وبشَّرّ به في أقواله وأفعاله، مؤمناً بأن الله محبة ورحمة وسلام، مردداً قول الناصري وهو على خشبة الصليب” يا أبتاه اغفر لهم لأنهم لايعلمون ماذا يفعلون”

وهكذا حثَّ الناس على مقابلة السيئة بالحسنة، والنكران بالعرفان والبغض بالمحبة، والطمع بالتسامح، والأنانية بنكران الذات والتجيف بالغفران. إنها الأقوال وأفعال تبعث الروعة في القلوب.

آمن بالله، ودعا الناس الى الايمان به، مرشداً اياهم الى ماجاء في الانجيل الشريف:” لو كان لكم ايمان ولا تشكون ليس فقط التينة تفعلون بل إن قلتم لهذا الجبل انتقل وانطرح في البحر فيكون.”

آمن بالله، والايمان بالله هو اساس الفضائل المسيحية وأحاط ايمانه بالعناية التامة، فنما وزها وجاء بالثمار الشهية أليس بالايمان الصحيح سد قدماء المسيحيين أفواه الأسود، وهزموا جيوش الأعداء، وردوا هجمات المعاصي؟ آمن بالله وفعل إرادة الأب السماوي فكان ابنا للحياة.

آمن بالله وأسلم له تسليماً بدون قيد ولا شرط فعاش في ظل النعمة الالهية وأرضى نفسه وخالقه، فكان ذلك المسيحي الحقيقي الذي قدم ولاءه للسيد المسيح فأنار السيد المسيح طريقه وكان له مجد الهداية الى مافيه الخير والسعادة.

وكان له شرف الدعوة الى الاستقاء من ينبوع المحبة الذي لاينضب معينه ولا يجف، فماؤه العذب ليسيل في البدان صحة، وفي النفوس راحة، وفي القلوب يتفجر حياة ابدية.

آمن بالله، فمشى في طريق الحق والنور والحياة وسار صعداً الى العلاء.

لقد وعى قول السيد في إنجيله الشريف:

من المرويات عنه مع الشيخ خليل
من المرويات عنه مع الشيخ خليل

” أنا الخبز الحي الذي نزل من السماء، إن أكل أحد من هذا الخبز يحيا الى الأبد. من يأكل جسدي ويشرب دمي يثبت في وأنا فيه. من آمن واعتمد يخلص ومن لم يؤمن يدان”.

لقد أكل من خبز المسيح فحيي حياة أبدية وكان المخلص الأمين للكنيسة طول حياته. عاش في ظل النعمة، وسار في طريق النور استوحى شريعة السيد المسيح، وابتغى رضاه في أفكاره وأقواله وأفعاله. عاهد الله على الاتحاد معه بحضور الصلوات، مسترشداً بقول المعلم الموجه الصالح لبعض تلاميذه الذين أعياهم الأرق وناموا فانتهرهم قائلاً:” مابالكم نياماً ! اسهروا وصلوا لئلا تدخلوا في التجربة”

وهكذا، عاش ماعاش من عمره المديد، هادياً للناس، ومرشداً الى طريق الخير والنور والحياة. ولم يعمل غير الأعمال الصالحة احتراماً لجوهر الله فيه. عاش للرب وفي الرب وسدوه التراب غاب جسماً ولم يغب ذكريات فواحة الأطياب.

في ذمة الله ايها الفقيد العظيم، ثم وحسبنا منك ما أذكيت من شعلة ايمان لغير خمود، وماشيدت من منائر للاخاء والتوحيد. تطفأ النجوم السواطع والأنوار منها وتظل ملء الوجود.

وفي ذمة الله ايها الراقد في جانب الكنيسة التاريخية في الحي الشرقي من أحياء صافيتا البلدة التي أحببتها، بجانب الكنيسة القائمة في وسط المقبرة، في الكنيسة المحاطة برواب يتجلى الجلال في رؤوسها شامخ التيه، ويتهاوى الجمال على أقدامها فذ الفنون.

في ذمة الله ايها الكاهن الذي فعل إرادة الأب السماوي. في ذمة الله ايها الكاهن القديس. ” “صافيتا – حزيران 1964 الخوري ابراهيم ابراهيم.”

– “حياته ونسبه

كنيسة مار ميخائيل / برج صافيتا
كنيسة مار ميخائيل / برج صافيتا

والده

في عام الف وسبعمائة وتسعة وستين هاجر فتى أبي النفس، عزيز الجانب، وفي عمر الورود والرياحين في عامه الثاني عشر بعد مصاب ألم به بوفاة والده، من قرية بهرين الواقعة بين نهر الاسماعيلية وقرية بملكة الى بلدة صافيتا، وذلك الفتى هو سمعان ابن القسيس سليمان بن القسيس ابراهيم، فلاقى أهلاً بأهل واخواناً بإخوان. وماكان هاجر الى صافيتا لولا صلة القربى التي تربطه بآل حداد فيها، ولولا اعتقاده بأنه يجد فيها ملجأه الأمين.

وفي صافيتا احتضنه أقاربه آل حداد وهم بشور وجبور وحنا واستقبلوه بالترحاب، وعطفوا عليه عطف الأم على الفطيم وقد كان يحن الى ذلك العطف كحنين العطاشى الى ينبوع ماء يتدفق منه الماء الزلال، وكحنين الزهر الى قطرات الندى.

لقد أحبوه وأحبهم ولا غرو، وهو الطيب الخلق الأبي النفس، ورعوه بعنايتهم، فنشأ في كنفهم هانىء البال هادىء الأعصاب قرير العين، يدغدغه الأخضر العذب من الأحلام.

وماكاد يدرج الحداثة الى الشباب، وتظهر عليه علائم الرجولة ويتشح بوشاح الشمم والإباء، حتى تزوج مريم بنت بشور، فعاش وإياها في غبطة وسعادة، متعاونين متحابين هانئين في ظلال النعمة، وكأسعد مايكون زوجان متحابان، جمع الهوى بين قلبيهما فرتلا صلوات القلب في هيكل الحب.

وفي عام الف وسبعمائة وثمانية وتسعين رزق منها ولداً اسماه (ابراهيم) تيمنا باسم جده الأكبر. وفي السنة ذاتها اي سنة 1798 سيم كاهناً لكنيسة رئيس الملائكة مخائيل في صافيتا، وبقي كاهناً لهذه الكنيسة حتى عام 1810 حيث لبى نداء ربه تاركاً ابنه الوحيد (ابراهيم) في عامه الثاني عشر، لرعاية أخواله سعد وابراهيم وسلوم لكن كان عطف خاله ابراهيم عليه أكثر من عطف أخويه، فرباه واعتنى به أشد العناية وهكذا لمس الولد في خاله حنو الوالد وعطفه، فنشأ في كنفه على الخصال الحديثة، ودرج سن الحداثة الى الشباب وكان من أمره ما كان في البلدة التي أحبها وأحبته في حياته وقدست ذكراه بعد وفاته.”

-” مولده

في عام الف وسبعمائة وثمانية وتسعين 1798 كما مر في ترجمة حياة والده، تفتحت على نور الحياة عينا الكاهن القديس ابراهيم ولقد نشا في ظلال عطف الوالد وحنو الأم حتى عامه الثاني عشر أي عام 1810 حيث أُصيب بفقد والده الكاهن سمعان فذاق مرارة اليتم وألم الحرمان ووحشة لفراق. ولكن إن قسا عليه القدر وفقد والده، فلم يفقد خاله ابراهيم ابن بشور الذي أخذه ورعاه ورباه واعتنى بأمره حتى كبر، ودرج الحداثة الى الشباب، فزوجه من مرتا بنت عبود السكاف” جد عائلة عبود في صافيتا” فرزق منها اربعة بنين وابنتين” سليمان، داود، حنا، الياس، كاترين، ورحمة”. وفي عام الف وثمانية وخمسة وثلاثين 1835 وكان في عامه السابع والثلاثين، سيم كاهن بدلاً من ابيه لكنيسة صافيتا الأرثوذكسية، فكان ذلك الكاهن الورع التقي الذي كرس حياته لله، وبدأ يعمل باخلاص، فتجلى نور الله فيه، وبدأت مواهبه تظهر وفضائله تعم، ولا غرو فالايمان بدون أعمال ميت أما قال الرسول يعقوب: ” ما المنفعة ان قال أحد إن له ايمان ولكن ليس له أعمال، هل يقدر الايمان أن يخلصه؟ وهذا الاستفهام لتأكد أن لا خلاص بالايمان من دون الأعمال.”

وهكذا آمن وعمل، دون خوف أو وجل فكانت له في الصالحات الباقيات يدان لقد أرشد الناس الى طريق النور، وعلَّمَّهم التعاليم المسيحية الصحيحة، فكانت تعاليمه تدخل الآذان بلا استئذان لأن القلوب كانت من ذهب والكأسات والصلبان من خشب. وأما في هذه الأيام فالكاسات والصلبان من ذهب والقلوب من خشب، ويصعب على القلوب من خشب أن يغمرها الايمان الصحيح.

كان كاهننا الفقيد يعمل لإرشاد الناس طلب ملكوت الله وبره، خادماً الكنيسة بإخلاص وتقوى مردداً في صلواته وأحاديثه قول السيد الفادي الحبيب:” من لطمك على خدك الأيمن فحول له الأيسر، واذا كانت يدك اليمنى تعثرك فأقطعها وألقها عنك، لأنه خير لك أن يهلك أحد أحد أعضائك ولايلقى جسدك كله في جهنم”. وكان لباسه بسيطاً ليقهر النفس المتكبرة؟ وأبى لمثله أن يكون له نفس متكبرة؟ وعصا كان يحملها من سنديان غير مذهبة أو مفضضة. يحملها ليستند عليها لا للزينة أو البهرجة لم يترك الرب ساعة في حياته، فلم يتركه الرب فغلب باسمه الشيطان وباسمه شفى مرضى كثيرين وأتى بعجائب كثيرة وطوبى للذين يعملون باسم الرب. صلى للرب وطلب فأناله كل ما طلب. وعندما كان يصلي، كان يسمع منه صوت صلاة ترافقها زمزمة كزمزمة النحل عندما يحوم على الزهر،وإذا سئل عن ذلك أجاب سائله: “عندما أصلي تصلي الملائكة معي.” وهل من عجب في ذلك؟ فمن أعطاه الله القدرة على ان يشفي المرضى والمصابين، وينير الطريق للضالين، جدير بأن يتجلى نور الله فيه وهل أدل على ذلك، من أن الناس كانوا يرون ليلا في أعلى خيمته شكلاً كلهيب نار فيظنون أن الخيمة تحترق، وسرعان مايهرعون اليها لإخماد النار، فلا يجدون إلا نوراً يتصاعد نحو السماء، فلا يرعون عن تعظيم الخالق، وتمجيد المخلوق وجدير بالتمجيد من كان ذا اذن سامعة لأقوال السيد الفادي الحبيب فلا يعمل الا بموجبها، وهذا أجمل الصدق في الايمان.وجدير بالتجيد والاحترام من كان ذا عين باصرة تبصر الصراع المتواصل بين قوى الخير وقوى الشر، فيتخذ جهة الخير ولايعمل سوى الأعمال التي ترضي ضميره وترضي الناس. وما كان كذلك إلا لأنه كان يحمل اسم المسيح، وغلا لأنه كان بعيداً عن كل إساءة الى نفسه وإلى الناس. كان حريصاً أن يظل قريباً من الفادي الحبيبن مغتنماً عطفه، مقيما الدليل تلو الدليل على أنه المسيحي الصالح الذي لا يحدث منه ميل إلا الى عمل الخير، ولايرشد الناس الا الى الطريق المستقيم.

كم كان اعتقاده قوياً بقوة السيد المسيح التي تصون اللاجئين اليه، وتعينهم في التغلب على المصاعب، وتنير أمامهم الطريق.

طوبى لك ايها الكاهن العظيم، يامن عشت في الرب وفي الرب وسدوك التراب، طوبى لك يا من عملت في نشر عقيدة الكنيسة المسيحية بالوعظ والارشاد من سيامتك كاهناً لبلدتك، طوبى لك أيها الكاهن قديس، عرفك سكان بلدتك والقرى المجاورة لها رمز طهر في هيكل المعبود، وفيض رحمة وحنان للمستضام والمنكود، فشدوا باسمك الملفوف بالطيب، وطاب لهم الهوى في النشيد. أيقظت الضمائر لمقاومة الشر، ناشراً تعاليم السيد المسيح. فصدق فيك قوله:” أنا هو الراعي الصالح، الراعي الصالح يبذل نفسه عن الخراف. أما الأجير الذي ليس براعٍ وليست الخراف له فيرى الذئب مقبلاً فيترك الخراف ويهرب. فيخطف الذئب الخراف ويبددها وانما يهرب الأجير لأنه أجير ولايهمه أمر الخراف.”

– ” وفاته عام 1892

من عام الف وثمانمائة واثنين وتسعين (1835-1892) أعوام كلها طافحة بجلائل الأعمال والأقوال منذ رسامته كاهناً عام 1835 حتى وفاته عام 1892، كرس حياته للرب وفي الرب مات، وطوبى للذين يموتون في الرب، فإن أعمالهم ترافقهم. كان كاهننا الفقيد في أخريات حياته، يشغل أوقاته كلها في الصلاة ليلا ونهارا لله العلي القدير، وفي ليل اليوم التاسع والعشرين من شهر آب من عام الف وثمانمائة واثنين وتسعين 1892 بعد منتصف الليل، أودع روحه الطاهرة بيد خالقه، وكانت وقتئذ جموع كثيرة تنتظر أن ترى كيف تكون وفاته ففي الدقائق الأخيرة داعب الكرى أجفان الجميع، ومابقي يقظان الا ابنه داود الذي كان محتضناً رأسه؟ فرآه يفتح فاه ويطبقه ثلاث مرات وبذلك أسلم الروح، فانتبه الحضور إذ ذاك، وأيقظهم أجراس ترن في الجو، وقد رأى الذين كانوا على البيادر القريبة من بيته، نوراً صاعداً الى السماء، كأنه يحمل روحه الطاهرة الى باريها، وفي صباح الغد حضر الكهنة والبسوه حلته الكهنوتية وأجلسوه على كرسي.

وماكاد الخبر المؤلم ينتشر حتى توافد الناس الى بيته، وفود، للتبرك بلثم يديه. ولما حان وقت الصلاة عن نفسه في الكنيسة التي كان يخدمها، وضعوا الكرسي على محمل ووقف وراءه وفوق رأسه رجل بيده قمقم يرش به عليه ماء الزهر. وبعد اتمام المراسيم الدينية والصلاة على الجثمان الطاهر حملوه على الرؤوس، ولما خرجوا من باب الكنيسة انبسطت سحابة حجبت وجه الشمس، وصارت تقطر نقطاً من الماء كالتي كانت تخرج من فم القمقم، حتى انتهوا في سيرهم الى المقبرة، ووضعوا الجثمان بجانب المدفن، ونظر الناس اليه فإذا بهم يرون العرق يبلل جبينه ووجنتيه، فأخذوا يمسحون مناديلهم به للبركة، وأخيراً دفن باجلال وتكريم. وبعد أن واروا الجثمان التراب، وعند منتصف الليل، نزل نور من السماء على الضريح، كما رواه الخلف عن السلف، واستقر فوقه ساطعاً نحو ربع ساعة، وعاد صاعداً في الجو حتى اختفى عن الأنظار تاركاً أثراً ظاهراً على القبر، تفوح منه رائحة ذكية تفوق رائحة العطور. وفي الصباح توافد الناس للزيارة، فكانت تفوح تلك الرائحة الزكية في انوفهم، وصار كل واحد منهم يأخذ حفنة من التراب الذي على القبر، حتى أخذوا الكثير منهم.

وهكذا كانت نهاية ذلك الكاهن الطاهر القديس، الذي بكاه كثيرون بالعزيز الغالي من الدموع، وأرخ وفاته كثيرون من شعراء العربية تخليداً له وهو على الزمان مخلد، وفيمايلي بعض ما قيل في تاريخ وفاته”

– ” بعض ما قيل في تاريخ وفاته

أرخ كثير من شعراء العربية وفاة الفقيد، وها أنا أثبت بعضاً مما قالوه:

قال الشاعر البيروتي السيد الياس حنيكتي مؤرخاً وفاة الفقيد:

لتبك الروم كاهنها الجليلا……..وتشكو بعاده جيلاً فجيلا

مآثر بره ذاعت فكانت……….على إخلاص خدمته دليلا

مضى لله ابراهيم لما……….. دعاه لينعم الأجر الجزيلا

فقال ملاكه لمؤرخيه…………

بحضن
سمية
أضحى
نزيلا

860 116 819 98

1892

وقال الاستاذ الكبير جرجي كنعان رحمه الله

حدث تقيم به الطهارة والتقى……….ويحفه التكريم والتعظيم

حرم القداسة والجلال يؤمه………..من كل صقع مدنف وسقيم

خدم الكنيسة عمره فتلألأت ………أنوارها وتمجد الأقنوم

عجباً يوارى في التراب وإنه……. أبداً بأفئدة العباد مقيم

لما وفى وزنات سيده وقد………..ناداه أسرع فالمقام نعيم

هتف الملاك أرخوا وتعججوا……

في حضن ابراهيم ابراهيم

1892

وقال الاستاذ الياس ميخائيل يازجي رحمه الله

قد جاء صوت صارخ لاتحزنوا…….وضعوا بقبر هيكل الانسان

ذا كاهن خدم المسيح حياته………..انجيله يهدي الى الايمان

قد عاش بالتقوى وصنع عجائب……إذ ماؤه يشفي العليل العاني

وترابه بعد الممات فكم شفى………من مسقم يشقى بطول زمان

فالنفس خالدة تطير الى السما…….والجسم يبقى في الضريح الفاني

ولذا فقد قال الملاك بموته……….لا تحزنوا ابراهيم هذا الثاني

قد ضم ابراهيم أراح خلته……….

ابراهيم لما هل بالأحضان

قبة ضريح الخوري ابراهيم
قبة ضريح الخوري ابراهيم

بة ضريح الخوري ابراهيم

1892

وكذلك قال يوسف عرنوق مؤرخاً وفاته

تزود بالتقوى والبر كاهن…………الى ضوء وجه الله منذ الصبا صبا

وكان كموسى بالعصا مظهراً لنا……..عجائب منها الخلق طراً تعجبا

وصيره المولى بتاريخ أيه…………..

خليلاً له بعد الخليل مقربا

1892

وقال الاستاذ وديع مرقص

هذل سراج الدين أطفىء نوره………فمنارة الدنيا في ليل بهيم

………………

……………

وكذلك قال المرحوم غانم الياس

ياقبر أكرم فيك ضيفاً كاهنا………..نشر التقى وهو التقي الكامل

……………….

…………….

وقال فيه كثيرون غيرهمن فطوبى لراحل كفاه ان تاريخه تدفق طهراً، وأن الله أناره بشعاع تجلى على جوانب المهد، وصحبه الى اللحد.”

– ” أعماله بقوة ايمانه

كثيرة هي أعماله التي وضعته في مصاف القديسين، ولا غرو فإيمانه ماوهن يوماً ولا ضعف، بل كان يزداد قوة واشراقاً ماكرّ الجديدان. نظر الى ماجاء في الانجيل الشريف:” لو كان لكم ايمان ولاتشكون، ليس فقط أمر التينة تفعلون، بل ان قلتم لهذا الجبل انتقل وانطرح في البحر فيكون” فاعتقد بانه قادر على ان يأتي بالمعجزات، مادام مؤمناً بالله، وبما جاء في انجيله الشريف، وهكذا كان وهذه حادثة من حوادث كثيرات، وقد روتها الألسن خلفاً عن سلف، وهي أنه في يوم من الأيام زار سيادة المثلث الرحمات المطران زخريا وهو مطران عكار وتوابعها. في ذلك الوقت. صافيتا متفقداً الطائفة فيها، وما كاد يستقر به المقام حتى وشى اليه البعض من رجال الحسد واللؤم والنفاق قائلين له: “ان الخوري ابراهيم يتعاطى الشعوذة بين الناس، ويعمل لهم الرقوات”، فدعاه للمثول أمام حضرته وأوصاه بأن لايعود الى استعمال الرقوات. وحذره مغبة ذلك العمل وفي اليوم التالي ركب سيادة المطران فرسه قاصداً قرية بدادا مع بعض المرافقين له. وبالقرب من القرية لسعت أفعى فرسه برجلها وفي الحال ورمت رجل الفرس وسال الدم منها، وحينما وصلوا الى القرية تزايد الورم ولم تعد تقوى على النهوض، فحار المطران بأمره وشق عليه موت فرسه، فقال له أحد المرافقين: لن تقوَ الفرس على النهوض والسير ما لم يصلي لها الخوري ابراهيم على ماء ويسقيها منه فاستدعى المطران عندئذ الخوري وطلب اليه ان يفعل ذلك فأجابه: “أنت ياسيدي منعتني عن هذه الأعمال.” فقال له المطران:” أنت حل من ذلك”، فصلى عندها على ماء وسقى الفرس منها فقامت بقدرة الله، وكأن لم يصبها شيء، وأكلت من العلف المقدم لها، فباركه المطران وقال له:” ثابر على ما اعطاك الله”. وهكذا عاد لما كان عليه فكان هبة من الله لشفاء المرضى والملسوعين والمطحولين، وكان يصلي لهم من أجل الشفاء كل حسب مرضه. وكان الله عز وتعالى يستجيب صلاته ويهبهم الشفاء تمجيدا لاسمه الأعظم على لسان أحد خائفيه. وهذه حادثة ثانية من حوادث كثيرات غيرها، تدل على قدسيته وطهارته. ففي عام 1925 حينما توفي حفيده الطيب الذكر المرحوم الخوري عيسى، أرادوا أن يدفنوه في قبر جده، فبدأ العمال يحفرون القبر، وكان قد مضى على وفاته أكثر من ثلاث وثلاثين سنة، ولما وصل العمال الى البلاط الموضوع فوق الجثمان تشللت أيديهم وقد لمحوا من ثقب نوراً يضيء داخل القبر فحدقوا جيداً وإذا بهم يرون بدلته الكهنوتية فمد واحد منهم وأخذ قطعة صغيرة منها، فإذا هي كما كانت عليه حين دفن الفقيد لم يتغير منها شيء حتى كأنها لم تكن تحت التراب، وصار يأخذ كل واحد منهم خيطاً للبركة ولكن لم يطل الوقت عليهم حتى أصبحوا في حالة ذهول، وكانوا يسمعون شخصاً يقول أعيدوا ما أخذتموه الى محله، فصار كل واحد منهم يعيد للقبر ما أخذه.

وبعد أن حدث هذا الحادث، كفوا عن فتح القبر، ودفنوا الخوري عيسى حفيده بجانب جده في قبر حميه أبي زوجته سعد.

فبعد هذه الحوادث، قام كاتب هذه السطور ابن حفيده، والذي يتشرف بحمل اسم جده الأكبر القديس، في مشروع بناء قبة فوق الضريح، فأقيمت القبة وهي الآن مزار يقصده الناس من جميع الجهات على اختلاف نحلهم يحرقون البخور ويشعلون الشموع، وكثيرون ينذرون تعميد أولادهم فيها فلا تخلو من الزوار.

والى القارىء الكريم حادثة يرويها الخلف عن السلف بإعجاب وتقديس وهي

كان بعض النسوة على عين الحداد القريبة من المقبرة واذا برجل يقبل عليهن صائحاً:” ارجو منكن أن ترشدنني الى قبر الخوري ابراهيم”، فقالت له إحداهن: “وماذا تريد منه؟” قال:” أنا أشعر بألم في بطني واذا مالمست قبره فإنني أشفى بالحال.” فقالت له على سبيل التهكم: “هذا قبر الخوري ابراهيم” ودلته على صخرة قريبة فهرول مسرعاً الى الصخرة وانطرح عليها وصاح بأعلى صوته: “دخيلك ياخوري ابراهيم اشفني من مرضي” وماهي الا هنيهة حتى نهض بقدرة الله وقوة ايمانه سليماً من مرضه لا يشعر بشيء فلما رات النسوة ماحصل له، قالت له تلك المتهكمة عليه: “طالما وانك شفيت فهناك قبره بجانب باب تلك الكنيسة التي تراها امامك فاذهب وزره” فمضى وزار القبر وعاد شاكراً لله على نعمائه. وعادت النسوة يخبرن الناس بماجرى ويمجدن الله.

إحدى وسبعون سنة مضت على وفاته وكانها بضعة اشهر بينما الذين ماتوا من بضعة أشهر لا ذكر لهم البتة.

– ومن متروكاته، عصاه التي كان يتكىء عليها والتي لاتزال كما كانت في ايامه، والمطلق عليها اسم” عصا الخلاص” الآن، فعندما تتعذر أية امرأة في الولادة، يأخذون لها العصا فتضعها على بطنها أو ظهرها فتلد بسهولة تامة، وهذا مايدل على ماله من الكرامة عند الله وهذه حادثة أخرى يذكرها الكثير من أهالي صافيتا وهي

في ذات يوم من ايام سنة 1924 كان المرحومان زخور متى بشور وولده فياض وشخص من طرابلس يدعى علي شحادة عائدين من بيت عزيز بك الهواش قرب منتصف الليل بعد سهرة قضوها عنده، ولما وصلوا الى قرب المقبرة شاهدوا بصيصاً بجانب باب الكنيسة حيث القبر فصعدوا الى المقبرة ليروا ماذا يكون ذلك البصيص، فصاروا يحركونه بأيديهم ولم يشعروا باحتراق، بل كانوا يشمون منه رائحة ذكية تملأ الجو، وفي صباح اليوم التالي أخبروا الناس بذلك، ممجدين الله الذي كرم عبده حياً وميتاً وهل أدل على قدسية ذلك الكاهن الذي يبقى ذكره على الزمن من أن بيوتاً كثيرة في صافيتا وجوارها من بيوت النصارى واخواننا العلويين تحتفظ بماء صلى عليه في حياته، يسقون منه المريض فيشفي بقدرة الله، ويرشون به البيوت فتذهب عنها الحشرات وحوادث كثيرة وكثيرة جداً غير هذه، وكلها تدل على قدسية كاهننا الفقيد وهذه حادثة اخرى

رجل من بيت سلامي التابعة لصافيتا اسمه علي سلامي، مقيم في حمص الآن وملتزم فندقاً فيها، ظهرت في جسمه سنة 1955 حبوب كثيرة وقد راجع الكثير من الأطباء في صافيتا وطرابلس وبيروت ولم يستفد من زياراته لهم شيئاً، وأخيراً نصحه البعض من اصدقائه أن يزور قبة الخوري ابراهيم ويتبرك منها، فنزل عند رغبتهم طالباً للشفاء، وأتى مؤمناً الى القبة، ودخلها وكله ايمان ودهن جسمه بترابها فشفاه الله.

وهذه، إلى ما هنالك من حوادث كثيرات، لو اردنا إثباتها لاحتجنا الى مجلدات، وهذه حادثة أخرى

السيدة جميلة خضر زوجة السيد غانم سليمان غانم من قرية صهيون التابعة لصافيتا، كانت تشكو من وجود حيات وعقارب في البيت الذي تسكنه فأتت زائرة الى قبة الخوري ابراهيم وبرفقتها طنوس جروج موزع البريد في القرى التابعة لمركز صافيتا، فأخذت ماء من الصنبور الموجود فيها، وتراباً من ارضها، وذهبت وبوصولها لبيتها أذابت التراب في الماء الذي أخذته ورشت به البيت وفي صباح اليوم التالي بينما كانت تطبخ القهوة لأقاربها الموجودين عندها في ذلك الصباح سمعوا صوت سقوط شيء في البيت فأسرعوا ودخلوا فوجدوا حيةكبية مكورة على بعضها لا تتحرك، فجروها الى خارج البيت وقتلوها، وبعدها سقط عقرب أيضاً فقتلوها؟ ولم تعد بعده شيئاً في بيتها، طوبى للمؤمنين.

– وبعد هذه كلمة موجزة في سيرة فقيدنا الغالي المرحوم الخوري ابراهيم أكتبها نزولاً عند رغبة الكثيرين من ابناء بلدتنا صافيتا وجوارها والله حسبي ونعم الوكيل.”

صافيتا – حزيران سنة 1964

الخوري ابراهيم ابراهيم

 

Comments

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *