نواصل رحلتنا في ذاكرة التاريخ من خلال تسليط الضوء على قلاع تغني ذاكرة سورية التاريخية والأثرية ففي محافظة طرطوس عشرين قلعة أو برجاً تتقاطع فيما بينها وتتوزع على كامل مساحة المحافظة بشكل يحافظ على عبق التاريخ في كل شبر من طرطوس لتعطي هذه المحافظة أهمية دفاعية كبيرة في زمن بنائها ولتبقى هذه القلاع معالم تاريخية مهمة وشاهداً حياً على صمود السوريين وعزتهم واستبسالهم في الدفاع عن أوطانهم وتشبثهم بأرضهم وابتكارهم أساليب متنوعة للوقوف في وجه الطامعين بنهب خيرات سوريتنا الغالية، شواهد عملاقة تطل علينا من تاريخ المنطقة وحضارتها على الشريط الساحلي السوري حين يقف المرء على أعجوبة، حيث يتجمع أكبر عدد في العالم من القلاع والحصون التي تضمها منطقة واحدة، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على تاريخ حافل وتراث مهم جداً.
قلعة العريمة
هي مقصد السياح والباحثين عن عبق التاريخ بسبب السمعة المعتقة لهذه القلعة، تقع قلعة العريمة على بعد 25 كيلومتراً إلى الجنوب الشرقي من مدينة طرطوس وإلى الشمال الغربي من بلدة الصفصافة بمسافة 2 كم والجنوب الغربي من منطقة صافيتا وعلى خط نظر لا يتعدى 10كم عن شاطئ البحر ترتفع عن سطح البحر نحو 178 متراً، تسميتها بالعربية (آرامية- وقلعة عُريمة) وبالأجنبية arima و orima تشير بعض المصادر التاريخية إلى أن قلعة العريمة هي قلعة أمورية قديمة كانت تابعة لمملكة سيميرا وهي إحدى ممالك أوغاريت الفينيقية استناداً لاسمها arimaاستخدمت مركزاً دفاعياً تابعة لمملكة أرواد غير أن مصادر تاريخية أخرى تشير استناداً لبعض اللقى الفخارية التي وجدت داخل القلعة وحولها إلى أن قلعة العريمة تعود إلى الحقب الرومانية اليونانية والرومية، وبسبب صعوبة القيام بالتنقيب فيها أو عمل سبر أثري منهجي فإنه لم يتم تحديد تاريخها الأول بالضبط ولقد ورد أول ذكر للقلعة في المصادر التاريخية بانتقالها من مالكيها الطرابلسيين إلى الكونت دوتولوز وذلك عندما قدم فرسان الاسبتارية إلى طرابلس عام1142م واتخاذهم قلعة الحصن مركزاً لهم والانطلاق منها لباقي الأراضي.
قلعة العريمة متهدمة تقع على تلة مرتفعة نسبياً تتاخم السهل العريض (سهل عكار) وتتحكم في مدخل وادي نهر الأبرش، حصينة يرجح أن تسميتها بالعريمة جاءت من العرمة وهي كومة القمح غير المدروس، وقلعة العريمة كبيرة تحيط بها أشجار البلوط وعدة أسوار مهدمة، وتتألف من برجين من الحجر الكلسي الأبيض لم يتأذيا كثيراً وعدة سراديب وبعض الغرف والقاعات الطويلة التي تقوم على عقود علماً أن بعض غرف وقاعات القلعة من الداخل ما زالت تحافظ على كيانها، يقع البرج الأول إلى جهة الجنوب الغربي من القلعة ويصل ارتفاعه إلى ثلاثين متراً، وهو مهدم من جهة الشمال، عريض من الأسفل ويضيق في النهاية، مبني بحجارة ضخمة جداً والبرج الشمالي له مواصفات البرج الأول، وهذان البرجان مملوءان من الداخل إذ يصعد إليها فقط من أحد الجدران، وتحافظ أبراج القلعة على هيكليتها، وهما مبنيان بهدف الرصد والمراقبة فقط، لأن بإمكان من يقف على أحد هذين البرجين أن يرى برج صافيتا وقلعتي الحصن ويحمور بالعين المجردة كما يمكن رؤية قلعة طرابلس وبرج ميعار رغم المسافات البعيدة بينها ناهيك عن إمكانية رؤية مساحات واسعة تصل إلى البحر كما يمكن أيضاً رؤية قلعة جزيرة أرواد، أما بقية أقسام القلعة فتتوزع بين سراديب واسعة أسقفها نصف دائرية وأنفاق لا أحد يعرف أين تنتهي إضافة إلى سجن القلعة، وأكثر ما تضرر في هذه القلعة سورها الخارجي بسبب عبث الأهالي والطبيعة، والجدران عريضة وسميكة ومبنية بطريقة الحجارة المعقودة، أما أبواب القلعة فهي على شكل أقواس خالية من النوافذ بل إن هذه النوافذ عبارة عن فتحات في الجدار ضيقة من الخارج واسعة من الداخل بحيث يرى من كان بداخل القلعة خارجها ولا يمكن من ينظر للقلعة من الخارج أن يرى من يتمترس خلف هذه النوافذ التي كانت تُستخدم لرمي السهام، وهذه الجدران والأعمدة والنوافذ خالية من الرسوم والزخارف، وكما في بنائها هي للتحصين والرصد والمراقبة، تتميز قلعة العريمة بموقعها الجميل والمشرف على سهل عكار وعلى مشهد طبيعي خلاب للأفق الفسيح الممتد للبحر وخضرة أشجار السنديان والزيتون التي تغطي الجبال المحيطة، تستحق من السادة القراء زيارتها لبثّ الروح في حكاياتها ولتنشيط ذاكرة حجارتها.
اترك تعليقاً